ويذكر كثير من أهل العلم في هذا المقام مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، وهي مسألة طويلة، لقوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:٤٤] فإن للسلف في هذا تفسيرين:
الأول: أنه كفرٌ دون كفر، والثاني: بأنه الكفر المفارق للإيمان، فترى أن طوائف من السلف قالوا: هو كفرٌ دون كفر، وترى أن طوائف من السلف جعلوه كفر الملة المفارق للإيمان.
وهذا أيضاً من الإشكالات التي يقع فيها بعض المعاصرين، فتجد من ينتصر انتصاراً مطلقاً للقول بأن هذه المسألة من باب الكفر دون كفر، ويدعي إجماع السلف على ذلك، وتجد من ينتصر للقول بأنها من الكفر الأكبر مطلقاً، وربما غلَّط سائر الروايات المأثورة عن ابن عباس وأصحابه من جهة إسنادها، أو أعلها، أو غير ذلك من الطرق التي يستعلمها من ينتصر لترجيح أن هذه المسألة من الكفر البين المخرج من الملة.
والصواب: أن كلا التفسيرين مأثورٌ عن السلف، والإسناد الذي ذكره ابن جرير وغيره عن ابن عباس وإن كان فيه كلام، لكن هذا من الأقوال الشائعة المعروفة عن ابن عباس، وقد كان الإمام أحمد والبخاري يذكرون في تفسير هذه الآية في مسائلهم وكتبهم أنه كفرٌ دون كفر، ويسندون ذلك إلى ابن عباس، مما يدل على أنه قول شائع عند السلف ومنهم ابن عباس وأصحابه، وإذا ضعف إسناد أو تكلم في إسناد بعينه، لم يلزم أن يكون القول المأثور عن ابن عباس في سائر موارده كذلك.
فالمحصل: أن كلا القولين مأثور عن السلف، وليس ذلك من اختلاف التناقض والتضاد، وإنّما من باب أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً دون كفر، وقد يكون كفراً أكبر، وذلك يرجع إلى حال المسألة وصورتها، بل ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن ما يسمى كذلك في كلام الفقهاء وغيرهم قد يكون معصيةً، وقد يكون كبيرةً، وقد يكون كفراً دون كفر، وقد يكون كفراً مخرجاً من الملة، مع أن سائر هذه الصور الأربع تسمى حكماً بغير ما أنزل الله.
وبيان ذلك: أن القاضي لو قضى في رجل وجب عليه حد السرقة بقطع يده، فلم يَقطع يده وإنما اكتفى بجلده لموجب عرض له، فإن مثل هذا عند السلف ليس هو الكفر المخرج من الملة، بل يكون هذا من الكبائر ونحو ذلك، وبعض الصور قد تكون فوق ذلك.
فهذه مسألة من الفقه لا يستعجل فيها، ولا ينبغي أن يخفض فيها ولا يرفع الناظر المبتدئ من طلبة العلم بحكمٍ قولي فضلاً عن حكم فعلي، بأن يتقحم شيئاً من الأفعال بناءً على قاعدةٍ أو نظرٍ رآه في كون هذا من الكفر المخرج من الملة، فإن الأصل في المسلمين هو الإسلام، ومن أظهر الإسلام وأظهر أصول الشرائع كالأذان والإِقامة والنّسك إلى بيت الله سبحانه وتعالى ونحو ذلك؛ فإن هؤلاء لا يزالون على الإسلام، ولا يصح أن يتقحّم عليهم بحال إلا إذا تحقق كفرهم بمقتضيات الشريعة ولوازمها على ما يعلمه من آتاه الله علماً وفقهاً في شرع الله سبحانه وتعالى.