للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بيان قول أبي الحسن الأشعري في الإيمان]

محصل قول أبي الحسن الأشعري في مسمى الإيمان، أن الإيمان عنده هو التصديق، وهذا الذي ذكره الأشعري في اللمع وذكره جماهير أصحابه وانتصروا له، كالقاضي أبي بكر بن الطيب في التمهيد، وكـ أبي المعالي ومحمد بن عمر الرازي وغيرهم، وهذا هو الذي عليه جماهير الأشعرية، يحكونه مذهباً لـ أبي الحسن، وقد نص عليه أبو الحسن في كثير من كتبه، وإن كان طائفة من الأشاعرة قد مالوا عن هذا القول إلى قول مرجئة الفقهاء.

وقد صرح بعض الأشعرية كصاحب المواقف بأن مذهبهم أن الإيمان هو التصديق، وأن مذهب أهل الأثر أنه قول وعمل، فكان قول أئمة السلف معروفاً عند كثير من علماء الأشاعرة، وأبو الحسن نفسه في مقالات الإسلاميين لما ذكر أقوال الناس ذكر قول أهل السنة والحديث في مسائل أصول الدين على طريقة من الإجمال، وفي آخر ما ذكر من مذهب أهل السنة والحديث، قال: إنه بكل ما يقولون نقول، فذكر أنه يقول بسائر الجمل التي ذكرها عن أهل السنة والحديث، ولكن علم أبي الحسن الأشعري بمقالة السلف كان علماً مجملاً.

ولا أدل على ذلك من أنه في كتابه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) ذكر قول المعتزلة في مسائل الدين كالصفات والقدر، والأسماء والأحكام وغيرها، بطريقة مفصلة عن أعيان المعتزلة، فذكر الفرق بين أبي هاشم وأبي علي أبيه، وذكر الفرق بين النظام والعلاف، وذكر أقوال أئمة المعتزلة والفرق بين البصريين والبغداديين من المعتزلة، لكن لما جاء إلى قول أهل السنة والحديث جعله في سياق مجمل لا يتجاوز الصفحتين أو الثلاث، مع أن مذهب المعتزلة أخذ من كتاب المقالات حيزاً كبيراً؛ فهذا دليل على أن علمه بالاعتزال ومقالات المعتزلة كان علماً مفصلاً لأنه كان معتزلياً، بل كان علمه واسعاً في غير مذهب المعتزلة كمقالات المرجئة ومقالات الشيعة والخوارج، بخلاف علمه بمقالات أهل السنة والحديث.

وذلك لأنه لما كان معتزلياً ما كان ملتفتاً إلى مذهب السلف، وكان على طريقة شيوخه كـ أبي علي الجبائي وغيره، يسمون مذهب السلف: الحشوية والنابتة، .. إلخ، ولا يلتفتون إلى تفصيله وحقائقه، فلما رجع أخذ هذا المذهب مجملاً عن بعض حنبلية بغداد، وصار يذكره في كتبه، ويقول: إنه يقول به، وإنه ينتمي إلى أهل السنة والحديث.

ومن بين الجمل التي ذكر في المقالات أنه يقول بها: أن الإيمان قول وعمل، فهذا يخرج على أحد طريقين:

الأول: أن يقال: إن الأشعري كان له في مسألة الإيمان قولان، القول الأول: أنه التصديق، والقول الثاني: أنه قول وعمل، وهو قول أهل السنة والحديث، وهذه طريقة يلجأ إليها كثير ممن تكلم في مذهب أبي الحسن.

وربما قال بعضهم: إنه كان يقول بأنه التصديق، ثم رجع وقال بأنه قول وعمل، ويجعلون هذا رجوعاً، لكون الأشعري عندهم رجع إلى قول أهل السنة والحديث في آخر عمره.

وهذه الطريقة غير صحيحة، فليس القول بأن الإيمان هو التصديق هو قوله القديم، بل قوله القديم هو قول الاعتزال، والمعتزلة يقولون: إن الإيمان قول وعمل، وكان يقول: إنه لا يزيد ولا ينقص على طريقة المعتزلة المعروفة، والمذهب الثاني: أن الأشعري يرى أن الإيمان هو التصديق.

وأما طريقة السلف فهو يتأولها، كما أنه ذكر عبارات توافق مذهب السلف، ولما أراد التفصيل تأول كلامهم إلى ما لا يتعارض مع مذهبه، وهذا الذي جعل بعض الباحثين يقولون بأن الأشعري رجع في مسألة الصفات الفعلية، وليس الأمر كذلك، فإن الأشعري أحياناً يقول: ونؤمن بأن الله مستوٍ على العرش كما ذكره الله، ونؤمن بنزوله كما حدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يؤمن بالنزول كحديث؛ لأنه يرى أن أئمة السنة والحديث ذكروا حديث النزول وصححوه، فهو يصحح هذا الحديث لكنه لو سئل عن تفصيل معناه لتأوله.

ولما كان أبو الحسن معتزلياً لم يكن يقبل الحديث أصلاً، فلما تأثر بأهل السنة وانتسب إليهم، فرأى أنهم يصححون حديث النزول مثلاً، فصار يذكره ويصححه ويستعمله، لكنه إذا أراد تفسيره فسره بما لا يعارض قوله في مسائل الصفات الفعلية، فالقصد أن هذا الوجه هو الأقوى، وأعني أن الأشعري يتأول قول السلف، ولهذا فعامة الأشاعرة من بعده يطبقون على أن مذهب أبي الحسن هو أن الإيمان هو التصديق، وأما قول السلف فإنه يذكره ولكن يتأوله، وقد ذكر شيخ الإسلام أن طائفة المتكلمة الصفاتية يذكرون قول السلف في الإيمان ويتأولونه بما لا يعارض قولهم بأنه التصديق، وهذا هو محصل قول أبي الحسن، ولا يقال إنه قول الجهم بن صفوان كما فهم البعض، بل يقال: إنه قول ينزع إلى قول جهم بن صفوان؛ لأن جهماً يقول: إن الإيمان هو العلم والمعرفة، والأشعري يقول بأنه التصديق، فبين القولين فرق وإن كان بينهما نوع من التشابه.

<<  <  ج: ص:  >  >>