[حكم تارك الصلاة]
وأما من ترك ما دون الفرائض الأربع من الواجبات الظاهرة فإن هذا ليس بكافر, وإنما تنازع السلف رحمهم الله في الأركان الأربعة, ولم يحك الإجماع منضبطاً أو غير منضبط إلا في مسألة الصلاة وحدها, فإن إسحاق بن إبراهيم كما ذكر ذلك عنه محمد بن نصر المروزي بإسناد متصل إليه، وذكره عن أيوب السختياني؛ كان يحكيان الإجماع على أن ترك الصلاة كفر, وكان إسحاق يقول: (مضت سنة رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده إلى زماننا هذا أن من أدركته فريضة فما أداها إلى أن خرج وقتها فإنه يكون كافراً)، ويقول أيوب السختياني: (ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه)، ومن هنا قال طائفة من أصحاب الإمام أحمد وبعض أهل العلم: إن ترك الصلاة كفر بالإجماع, وزعموا أنه لم يخالف في ذلك إلا بعض المتأخرين.
والصحيح أن الكفر بترك الصلاة ليس من معاقد الإجماع البين, فإن الإجماع إذا استعمل في مسائل أصول الدين أريد به الإجماع التام الذي تكون مخالفته بدعة وضلالة, كقولك: إن السلف أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل, وأجمعوا على إثبات الصفات, وأجمعوا على أن الله خلق أفعال العباد، إلى غير ذلك.
فمن قال: إن ترك الصلاة كفر بالإجماع اللازم القطعي فإن الأمر ليس كذلك؛ لأنه جاء عن طائفة من المتقدمين كـ مكحول والزهري ومالك والشافعي أنهم ما كانوا يرون ترك الصلاة كفراً، وأما قول عبد الله بن شقيق: (كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من العمل تركه كفر إلا الصلاة)، فهذا صحيح عن عبد الله بن شقيق , ولكن لا شك أن الزهري ومالكاً رحمهما الله أعلم بالسنن والآثار من عبد الله بن شقيق , وإن كان متقدماً عليهما, فهذا اجتهاد وتحصيل حصله عبد الله بن شقيق، وهذا الإجماع الذي يذكره عبد الله بن شقيق ويذكره غيره, إذا سمِّي إجماعاً سكوتياً كان ممكناً, ومعلوم أن الصحيح من مذاهب الأصوليين أن الإجماع السكوتي حجة, ولكنه ليس حجة قطعية.
فالقول الراجح هو أن ترك الصلاة كفر، ودليل هذا القول ظاهر الكتاب وظاهر السنة, وإن كانت دلالة السنة أخص من دلالة الكتاب, ومن أخص دلائل السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة).
وأيضاً من دلائل كون ترك الصلاة كفراً أنه ظاهر مذهب الصحابة, فلم يصح عن صحابي من الصحابة أنه صرَّح بأن ترك الصلاة ليس كفراً, ولكن تحقق أن جماعة من الصحابة صرَّحوا بكون ترك الصلاة كفراً, وذكر ابن شقيق أنه لم يخالف فيه أحد، فيكون هذا استدلالاً حسناً, ويسمى إجماعاً سكوتياً لا قطعياً؛ لأن الإجماع القطعي يكون حجة لازمة، ومن اجتهد بخلافه فقد قال بدعة, وإذا اجتهد مجتهد بخلافه سمي اجتهاده غلطاً وبدعة, ولا يجوز لأحدٍ من بعده أن يقلده فيه, وعلى هذا يلزم أن قول من يقول إن ترك الصلاة ليس كفراً؛ أن يكون قوله بدعة, وأنه قول مخالف لصريح الكتاب والسنة, ويلزم أن يكون هذا القول لا تجوز متابعته ولا اعتباره كسائر البدع.
ولم يكن قدر هذه المسألة عند جماهير السلف كذلك, وإن كان إسحاق قد نقل الإجماع لكنه شاذ في تحصيل الإجماع, ولا سيما أنه قال: من زمان رسول الله إلى زماننا هذا، مع أنه يعلم أن مالكاً والزهري ومكحولاً قد خالفوا, ولا يصح قصر المخالفة على المتأخرين، ثم لو كانت المسألة من معاقد الإجماع لشاع ذلك في كلام أئمة السنة، كالإمام أحمد وغيره، فإنه لم ينطق بالإجماع أبداً، بل الرواية عنه مختلفة في تكفير تارك الصلاة.
وقد غلط بعض المالكية والشافعية على الشافعي ومالك رحمهما الله في هذه المسألة في بعض مواردها, لكنهم لم يغلطوا في أصلها, فإن الأصل في مذهب الشافعي وأصح قوليه: أن ترك الصلاة ليس كفراً, وإذا قيل هذا فإن الجماهير من أهل الحديث على أنه كفر، وهو الراجح من جهة الاختيار, وعليه ظاهر الكتاب والسنة, وظاهر مذهب الصحابة.