للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تنزيه الله عن فروض الذهن وتصوراته]

قال المصنف رحمه الله: [لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام].

قوله: (لا تبلغه الأوهام):

(الوهم): هو ما يفرضه الذهن ويعرض له.

و (الفهم): هو ما يتصوره الذهن، وهذا من الأوجه الممكنة في تفسير الفهم والوهم، وإلا لو أخذناها كمصطلحات كلامية أو فلسفية لطال القول فيها، والمعنى المقارب لمراد المصنف أنه أراد أن يقول: إن الله سبحانه وتعالى لا يبلغه تصور ولا فرض الذهن، والذهن -كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله -: يفرض المحال ولكنه لا يتصوره؛ فتصور الذهن أقرب إلى الإمكان من فرضه، والله سبحانه وتعالى منزه عن ما يفرضه الذهن.

إذاً: الفرض هو المرحلة الأولى التي يعرض فيها الشيء في الذهن، وقد يكون في هذه المرحلة ممكناً وقد يكون محالاً، فإذا ما دخل مرحلة التصور، فرفض الذهن أن يتصور ذلك الشيء دل على أنه إما محال، وإما أن الذهن عجز عن تصوره مع أنه قد يكون في الحقيقة من الأشياء الممكنة.

فمثلاً: قد يفرض الذهن مثلثاً له أربعة أضلاع! وهذا من المحالات التي لا يستطيع أن يتصورها؛ ولهذا كان من القواعد التي اعتمدها شيخ الإسلام في رده على المخالفين قوله: (إن ما ذكره الفلاسفة أو غلاة المتكلمين من الدلائل العقلية هي فروضات يفرضها الذهن، ولا اعتبار بما يفرضه الذهن؛ لأن الذهن قد يفرض المحال والممتنع، وأما ما يتصوره الذهن تصوراً تاماً فإنه يكون ممكن الوجود، فالله سبحانه وتعالى منزه عما يفرضه الذهن ويتصوره حتى ولو كان تصوراً كمالياً.

وقوله: (لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام)، هو من عبارات السلف كقولهم: (أمروها كما جاءت بلا كيف)، أي: مع نفي الكيفية عن الله سبحانه وتعالى، لا نفي وجود وإنما نفي علم، كما قال الإمام مالك في قاعدته المتواترة والمتلقاة بالقبول عند سائر أهل العلم: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه).

فقوله: (الكيف مجهول) أي: أن صفات الله سبحانه وتعالى لابد لها من حقيقة وكيفية ولكنها مجهولة.

أما كونها مجهولة فذلك بدلالة الشرع؛ لأن الله أخبرنا أنه استوى ولم يخبرنا كيف استوى، فالاستواء مجهول بدلالة العقل؛ لأن العلم بالكيفية ممتنع، فإن الكيف إنما يُعلم بالخبر المفصل أو بالمشاهدة أو بمشاهدة النظير، والله لم يخبرنا بالكيف مفصلاً، ولم نره، وهو متعال ومنزه سبحانه وتعالى عن المثيل والشبيه.

وقوله: (والإيمان به واجب)، أي: أن الإيمان بالخبر ليس مبنياً على الإيمان بالعلم بالكيفية؛ فإن هذا منفك عن هذا، والناس يؤمنون بأشياء كثيرة مع أنهم لم يعرفوا كيفيتها.

<<  <  ج: ص:  >  >>