للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المقدمة الثالثة: تقييم رسالة (العقيدة الطحاوية)]

تعتبر رسالة الطحاوية -في الجملة- على منهج أهل السنة والجماعة، لكن مع هذا صار لها ذيوع وشيوع عند سائر الفرق، وموجب ذلك: أن الطحاوي رحمه الله أجمل بعض المسائل التي هي محل نزاع بين المتأخرين، ولربما عبر بأحرف هي من أحرف أبي الحسن الأشعري وغيره من المتكلمين في بعض المسائل، ولهذا نجد ابن السبكي -وهو من الأشاعرة المتعصبين- يقول: (إن أصحاب الأئمة الأربعة معتقدهم في الجملة واحد، وهو ما قرره أبو جعفر الطحاوي رحمه الله).

فمثلاً: عندما ذكر الطحاوي مسألة القدر قال: (وأفعال العباد كسب لهم).

ومعلوم أن لفظ (الكسب) مصطلح عرفت به مدرسة الأشاعرة، ولما ذكر مسألة العلو قال: (تعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات)، وقال: (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات)، وهذه من الأحرف التي يعبر بها المتكلمون.

وكذلك في مسألة تكليف ما لا يطاق، عبر بنفس الأحرف التي يعبر بها علماء الأشاعرة.

إذاً: هذه الرسالة لم تكن في بعض مواردها صريحة في إبطال مذهب الأشعرية على التفصيل؛ بل فيها جمل فيها إجمال مع المذهب الأشعري، ولهذا السبب فإن هذه الرسالة قد شرحها جملة من الأحناف على طريقة الأشعرية تارة، وعلى طريقة الماتريدية تارة أخرى، وقد شرحها ابن أبي العز الحنفي على ما هو معروف عن الأئمة والسلف.

ولأجل هذا الإجمال أمكن لكثير من شراحها أن يصنفوا بعض جملها إلى مفصل معتقد الأشعرية، أو إلى مفصل معتقد الماتريدية، مع أن التحقيق أن هذا التصنيف أو التأويل ليس صريحاً في الرسالة، بمعنى أن الرسالة فيها جمل كثيرة صريحة في مخالفة مذهب الأشعرية والماتريدية.

وأيضاً: من جهة تراتيبها العلمية -وهذه مسألة قد تخفى على كثير من الناظرين في الرسالة- فإن هذه الرسالة من حيث التراتيب العلمية مقاربة للتراتيب الأشعرية.

فلهذه الأسباب صار لهذه الرسالة الشيوع والذيوع عند سائر الفرق، وإن كانت في الجملة على عقيدة السلف.

وقد يكون من الفقه عند طالب العلم أن تكون هذه الرسالة من الرسائل التي يقرر مذهب السلف تحتها، وتكون محل قبول عند بعض أهل التعصب ضد بعض الرسائل التي عرفت بالصراحة في تقرير مذهب السلف؛ كرسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وأمثاله، فإن هذه الرسائل قد لا يتلقاها كثير ممن عندهم مخالفة لأصول السلف أو مقالاتهم، بخلاف هذه الرسالة فإنها ذائعة شائعة منذ قرون.

وعليه: فإن الاعتناء بها يكون اعتناءً فاضلاً من جهة تقرير معتقد السلف، ومن جهة الدعوة إليه، والمسائل التي فيها غلط ينبه عليها في موضعها.

<<  <  ج: ص:  >  >>