ومحصل هذا القانون أنهم يقولون: إذا تعارضت الأدلة العقلية والأدلة النقلية فإما أن نقدم العقل، وإما أن نقدم النقل، وإما أن نعملهما معاً، وإما أن نسقطهما معاً.
وهذا ما يُسمى في الطرق الكلامية بطريقة السبر والتقسيم، وهي مستعملة في تحصيل الأقوال، وتحصيل المسائل عند كثير من الأصوليين، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في درء التعارض أنها من أضعف الطرق في العقل، وإن كان كثير من المتأخرين يجعلونها من يقين العقليات، فهذه الطريقة انتظمت هذا القانون، كما يذكره أبو حامد الغزالي، أو أبو المعالي الجويني، أو محمد بن عمر الرازي، كما في كتابه (تأسيس التقديس)، الذي نقده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (نقض التأسيس).
قالوا: أما جمعهما فممتنع، لأنه جمع للنقيضين، وأما رفعهما فممتنع؛ لأنه رفع للنقيضين، فسقط الثالث والرابع، قالوا: فلم يبقَ إلا أن يقدم النقل على العقل أو يقدم العقل على النقل، قالوا: وتقديم النقل على العقل ممتنع، لأن أصل قبول النقل هو العقل، فلو قدمناه عليه لطعنَّا فيما ثبت به النقل، وهو العقل، فلما تعذرت الثلاثة لم يبقَ إلا أن يقدم العقل، والنقل إما أن يؤول وإما أن يفوض.
قال الرازي حماقةً:(وإن اشتغلنا بتأويله فعلى سبيل التبرع).
وصحيح أن الرجل قد أفضى إلى ما قدم، ولكن المشكلة في هذه الخرافات التي كتبها، فهو وأمثاله وإن كانوا كباراً في علوم أخرى، ولهم فضائل في أبواب من العلم، لكن أغلاطهم هذه التي قالوها في أصول الدين وفي دلائلها تستعمل من بعدهم، وتقرر من بعدهم، وكأنها أقوال أئمة كبار، ولهذا يسمى الواحد منهم بحجة الإسلام، أو بصدر الدين، إلى غير ذلك من الألقاب التي توحي بإمامتهم في مسائل أصول الدين، والأمر ليس كذلك، لا بشهادة غيرهم عليهم، بل بشهادتهم هم على أنفسهم، فإن الرازي صاحب هذا القانون، قد صنف في آخر حياته كتاباً سماه (أقسام اللذات)، وقال:(إن لذة العقل هي العلم، وهي أشرف اللذات، وإن العقل هو أشرف ماهية في الإنسان، وأشرف لذاته هي العلم، وأشرف العلم هو العلم بالله، ثم قال: والعلم بالله: علم بذاته، وعلم بصفاته، وعلم بأفعاله، ثم قال: وعلى كل واحدة منها عقدة لم تنحل، ثم أنشد أبياته المعروفة:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ثم قال: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن)، فرجع إلى طريقة القرآن، لكن رجوعاً مجملاً وليس رجوعاً مفصلاً.