الخلاف في مسألة الصلاة مشهور، وإن كان أيوب وإسحاق قد حكوا الإجماع على كفر تارك الصلاة، ولكن المحفوظ هو المخالفة، وكذلك قول عبد الله بن شقيق، فإنه ليس مما يُجزم به، وقد كان بعض أهل العلم قالوا: إن ثمة فرقاً بين قول إسحاق وعبد الله بن شقيق، فإن عبد الله بن شقيق كان يحكي إجماع الصحابة، ومكحول والزهري ومالك والشافعي جاءوا بعدهم فلا تكون مخالفتهم خارقة لإجماع الصحابة، كما لم تكن مخالفة حماد بن أبي سليمان خارقةً لإجماع الصحابة.
والحق أن التسوية بين المسألتين يعوزها التحقيق، وذلك أن كون الإيمان قولاً وعملاً، أمرٌ مستقر في دلائل الكتاب والسنة، ولكن ليس من المستقر في دلائل الكتاب والسنة المتواترة أن ترك الصلاة كفر، بل إذا نظرت في دلائل القرآن لم تجد أن الله ذكر الصلاة وحدها وسمى تركها كفراً، وسائر ما يستدل به الحنابلة ومن استدل من المتقدمين من أهل الحديث على المسألة هو مثل قوله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}[التوبة:١١]، وفي السياق الآخر:{فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}[التوبة:٥]، إلى أمثال ذلك، ومعلوم أن الاستدلال بهذا يقع على أحد وجهين:
الأول: أن يراد بالتوبة هنا التوبة من أصل الكفر، مع الإتيان بالعمل، ولا شك أن هذا هو الذي يقع به الإسلام بالإجماع.
الثاني: أن يراد أن كل ما ذكر في الآية فإنه يكون تركه كفراً، فيلزم من ذلك أن يكون تارك الزكاة كافراً، فمن جعل الآية دليلاً على أن ترك الصلاة وحدها كفرٌ لزمه أن يجعلَ ترك الزكاة وحدها كفراً.
ولا يصح هنا أن يقال: إن الزكاة خرجت بدليل آخر، فإن الدليل هنا خاص، والخاص لا يمكن أن يعارضه خاصٌ مثله، فيلزم من هذا أن يكون الاستدلال بالآية ليس جازماً أو قاطعاً، ولا يعني أيضاً أن الاستدلال بالآية المذكورة في سورة براءة ونحوها من الآيات غلط، بل يُراد أنه ليس استدلالاً صريحاً بيناً جازماً يبعث على أن يقال: إن الصحابة كانوا آخذين بصريح القرآن وصريح السنة.
وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)، فهو أظهر في الاستدلال من الاستدلال بالقرآن، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر الكفر معرفاً، وجعل الصلاة هي الفاصل بين الشرك والكفر وبين الإيمان والإسلام، ولهذا فإن الأظهر في الاستدلال على كفر تارك الصلاة هي دلائل السنة.
ولأجل هذا يقال: إن الراجح في مسألة تارك الصلاة أنه كافر بظاهر السنة، وبما يستدل به من القرآن، وبظاهر مذهب الصحابة، فإنه لم يصح عن صحابي من الصحابة أنه جعل ترك الصلاة ليس كفراً، وهذا قد يسمى إجماعاً سكوتياً، وجمهور ما يستدل به الفقهاء من الإجماعات في المسائل المفصلة هي من الإجماعات السكوتية، والإجماع السكوتي يكون حجةً ظنية، كما قرر المحققون كـ شيخ الإسلام وأمثاله.
إذا تحقق أن ترك الصلاة كفر عند الجمهور من أهل الحديث، وأنه ظاهر الكتاب والسنة، وظاهر مذهب الصحابة، فيبقى أن القول الآخر قاله طائفة من أهل العلم المعتبرين ولا يصح أن يكون هذا القول بدعةً وضلالاً، ومعلوم أن الزهري أعلم بآثار الصحابة وبإجماع أهل الحديث من عبد الله بن شقيق، وإن كان ابن شقيق أقرب حالاً منه من جهة الزمن والتاريخ، ولكن لو كان في المسألة إجماع لما خفي على الزهري وأمثاله.