للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ضبط الخلاف في مسائل الإيمان وعدم التجاوز فيها]

مما ينبغي التنبه له: أنه كما يجب الاعتناء بمعرفة مذهب السلف في باب الإيمان، ألا تتحول بعض الفروع الذي يقع الخلاف فيها بين السلفيين أنفسهم إلى نوع من الاختصاص الذي ما كان السلف يجعلونه اختصاصاً، ويُقصد بهذا أنه من غير السائغ شرعاً أن يقع الخلاف بين السلفيين أنفسهم في مسائل قد لا تكون عند السلف من الأصول الموجبة للمخالفة، بل يجب أن يكون هناك اتفاق، فإن المذهب السلفي قائم على أصل عظيم وهو الاجتماع، وهو من أخص أصول السلف رحمهم الله، ولهذا ينبغي حسم مادة الخلاف قدر المستطاع، إلا في المسائل التي هي خلاف بين السلف، ومع ذلك فإن مثل هذا الخلاف لا ينبغي أن يكون موجباً للتفريق، وأما الخلاف الذي يقع به التفريق والتضاد، فإنه غير موجود في مذهب السلف؛ لأن السلف في مثل هذه المسائل مجتمعون على قول واحد، فلا بد أن قولهم في مسمى الإيمان، مثلاً قول واحد.

أما المسائل التي قد تكون من محال نزاعهم، ككفر تارك الصلاة، أو كفر تارك الزكاة، فهذه مسائل لا ينبغي التشديد فيها، سواء فرض أن السلف أجمعوا على كفر تارك الصلاة، أو أجمعوا على عدم كفره، وهذا التنبيه لا يقصد به بأي حال من الأحوال التعليق على مقالات بعض الأعيان من المعاصرين، إنما المقصود أن تقرر الحقائق العلمية، وهذا هو المنهج الذي ينبغي أن يكون عند طالب العلم، وهو أن يقرر الحقائق العلمية الشرعية، وألا يلتفت إلى مسألة الأعيان قدر المستطاع، وإلا فقد يقول ببعض الأقوال أناسٌ لهم قدر وإمامة وعلم، ولكن يقع في كلامهم ما هو من مورد الإشكال، وقد يقولون قولاً مجملاً لا بد فيه من التفصيل.

وخصوصاً ما قد يقع فيه البعض من طلاب العلم، الذين يقررون مسألة الإيمان والعمل، وأنه أصل، وربما قرروا أن ترك الصلاة كفر بالإجماع، ثم اشتدوا في هذا التقرير، وأكثروا من التعليق أو الاعتراض على الأقوال التي قررها الشيخ الألباني رحمه الله، ولا شك أن مثل تلك المبالغات غير صحيحة، خاصة عندما يصف بعض المتعجلين إماماً كالشيخ الألباني بأنه مرجئ، فهذا غلط صريح، وما كان السلف رحمهم الله يعدون حماد بن أبي سليمان مبتدعاً على الإطلاق، مع أن الشيخ الألباني رحمه الله ما كان يقول بقول حماد بن أبي سليمان وأمثاله من الفقهاء، بل يجعل العمل داخلاً في مسمى الإيمان وله تقرير حسن في مسائل الإيمان معروف، ولكن بعض التفاصيل قد يكون فيها نوع من الخلاف بين الشيخ الألباني رحمه الله وغيره، وربما يقال في بعض المسائل: إن تقريره فيها ليس مناسباً على الإطلاق.

ولكن مع هذا كله فإنه يجب أن يحفظ لهذا الإمام العالم قدره وأن تحفظ له إمامته، وأن يحفظ له أيضاً مقامه في السنة، وإمامته السلفية العالية، ودرجته في علم الحديث بوجه خاص، وسائر علوم الشريعة بوجه عام، وفقهه رحمه الله في هذا مشهور، فبعض الأقوال التي قالها إذا كانت محل تعقب أو منها ما هو محل تعقب، فإنه ينبغي أن يتعقب على طريقة الأدب وعلى طريقة التنبيه، وأن لا يُفتات على هذا الإمام وهذا العالم في كلام لا يناسب مقامه، فإنه بإجماع علماء عصره إمام من أئمة السلفية، بل هو أخص أئمة السلفية في كثيرٍ من الأقطار الإسلامية، فله مقام معروف ينبغي حفظه واعتباره.

وكذلك من ينتصر لأقواله رحمه الله، ينبغي أن يكون مترفقاً وأن لا يشقق على أقواله ولوازم أقواله أقوالاً قد تضاف إليه أو قد يضيفها من يضيفها إليه، ولا يكون الشيخ رحمه الله رحمةً واسعة قد نطق بها وصرح بها، فمثل هذه المسائل لا ينبغي ربطها بواحدٍ من الأعيان، لا بسماحة الإمام الشيخ الألباني رحمه الله، ولا بغيره من أهل العلم المعاصرين، وإنما تُربط هذه المسائل الشرعية إذا ذكرت بأصولها من الدلائل المذكورة في كلام الله أو كلام رسوله أو كلام السلف رحمهم الله، وإذا وقع أحد من الأعيان الكبار في الغلط، فإنه لا ينبغي أن يكون ذلك موجباً أو مسوغاً للاستطالة أو التعنيف أو الإضافات البدعية أو نحو ذلك من الكلام الذي قد يقال.

ولا يفهم من هذا التعليق أن الحقائق العلمية لا تقرر، فالحقائق العلمية الشرعية التي تظهر من كلام الأئمة رحمهم الله يجب أن تقرر حتى وإن خالفت الشيخ الألباني أو غيره من الشيوخ والعلماء، لكن مع هذا فإن مثل هذه المخالفة ينبغي أن تقرر على طريقة الأدب والاعتذار والاستدلال، وليس على طريقة الذم والتجريح، أو إطلاق الأقوال بالتبديع أو التضليل، أو الإخراج عن السنة والجماعة، فإذا كان الشيخ الألباني رحمه الله ليس على طريقة سنية، أو ليس سلفياً فمن يكون السلفيّ إذاً؟!

فهذا كلام يجب تركه، ولا يجوز لأحد أن يستطيل على أحدٍ من آحاد خلق الله، فضلاً عن أئمة العلم والدين والتقوى والعبادة الذين ندر وجودهم في مثل هذا الزمن، كالشيخ رحمه الله وأمثاله، وكسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ونحن نعلم أنهما قد اختلفا في بعض هذه المسائل، ومن المسائل التي كانا يختلفان فيها مسألة مسمى الإيمان، ومع هذا فإنا نعلم أن هذين الإمامين العالمين عليهما رحمة الله أعظم أئمة السلفية في هذا العصر بلا إشكال، وما معهما من الإمامة والفقه والعلم يجب حفظه واعتباره، ويجب الاقتداء بما قرروه من العلم والتقوى والإيمان والورع الذي قل كثيراً في الناس اليوم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحمهما رحمةً واسعة.

والأئمة رحمهم الله، قرروا مسائل كانت تخالف قول كثير من الصحابة رضي الله عنهم، بل قرروا مسائل قد كانت تخالف قول أبي بكر، أو قول عمر، أو قول علي، أو قول ابن عباس وغيرهم، وما كان هذا مستنكراً، وينبغي لطالب العلم أن يكون لديه استعدادٌ لتقبل ما دل عليه الدليل مهما خالف من يحبه أو ينتصر له الألباني رحمه الله، أو لغيره فإن الحقائق الشرعية يجب أن تكون هي الأساس.

فمثلاً: لو قام في المسجد رجل عامي يقول: من أكل لحم الإبل فإنه يجب عليه الوضوء، فقوله هذا على خلاف قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، إلا أن الصحيح عند أحمد أنه ناقض، فيجب أن تقبل هذا القول وإن كان مخالفاً للأئمة الثلاثة، والمقصود أنه قد يقول قائل من آحاد الناس وربما من عامتهم أقوالاً ويقر عليها، مع أنها تخالف أئمة كباراً كـ مالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة، وعلى طالب العلم ألا يكون ضيق الأفق، ولا يكون انتصاره لإمام أو لعالم ملزماً في سائر الفروع والمسائل، فإن هذا هو الاقتداء المذموم الذي كان المتقدمون من السلف ومن يقتدي بهم كسماحة الإمام الألباني رحمه الله وغيره يذمونه.

ولا ينبغي لمن يذم التمذهب لـ مالك أو للشافعي أو لـ أحمد أن يقع فيما هو مثله أو أبعد منه في تعصبه لبعض الأعيان من المعاصرين، بل المقصود هو الانتصار لقول الله سبحانه وتعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه السلف.

<<  <  ج: ص:  >  >>