الحيلة فيه ويئست من قيامه ومضى من الليل أكثره قالت: عظم الله أجرك في أيرك، ثم نهضت ولبست ثياب الحداد ودعت بسفط فأخرجت منه مناديل صغاراً وحنوطاً وقالت: نم عل ظهرك يا بطال، فاستولى علي الخجل حتى إني لم أقدر أخالفها في شيء مما تأمرني به في جميع ما تفعله في فغسلته وحنطته وكفنته بتلك المناديل فلما فرغت همت بجواريها وقامت معهن في بكاء ونحيب ونوحٍ وندب وصراخ بأشد ما يكون وما زلن على ذلك إلى وقت السحر، ثم قالت: ما بقي إلا ما يتولاه الرجال من الصلاة والدفن وولت عني. فقمت وأنا أخزى خلق الله حالاً فلبست ثيابي وصليت الفجر وسرت من وقتي وساعتي إلى الرشيد فأنكر الحاجب حضوري في ذلك الوقت وأعلم الرشيد بي، فأذن لي فدخلت، وهو قاعد في مصلاه، فقال لي: ويحك ما دهاك في هذا الوقت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، خبري عجيب وأمري غريب، فبالله عليك يا أمير المؤمنين، ألا ما رحمتني وأرحتني من هذا الجارية التي أنفذتها إلي فلا حاجة لي بها.
فقال لي أمير المؤمنين: وما السبب لذلك وما الخبر الذي دهاك وليس لها عندك حين من الزمان.
فشرحت له القصة من أولها إلى آخرها حتى بلغت إلى إقامة الصلاة فاشتد ضحكه حتى أنه كاد يستلقي على قفاه وسمعت الضحك من كل ناحية في الدار من الجواري وغيرهن، ثم قال: نحن إلى هذه أحوج منك إليها وقد كنا غافلين عنها، ثم إنه أمر بحملها إلى داره وعوضني عنها خمسين ألف درهم وترك جميع ما حمل معها في منزلي وخرجت مجردة فحظيت بعد ذلك عند الرشيد حتى إنه لم يتقدم عليها أحد من نظائرها، وسميت من قوتها هذا بالأصمعية إلى أن توفيت رحمة الله عليهم أجمعين.