للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[إسحاق الموصلي وإبليس]

قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: بينما أنا ذات يوم في منزلي، وكان زمن الشتاء، وقد انتشرت السحب وتراكمت الأمطار بقطر كأفواه القرب، وامتنع الغادي والمقبل من المسير في الطرقات لما فيها من الأمطار والوحل، وأنا ضيق الصدر إذ لم يأتني أحد من إخواني، ولم أقدر على المسير إليهم من شدة الوحل والطين، فقلت لغلامي: أحضر لي ما أتشاغل به، فأحضر لي طعاماً وشراباً فتنغصت إذ لم يكن معي من يؤانسني، ولم أزل أتطلع من الطاقات وأراقب الطرقات، وأقبل الليل فتذكرت جارية لبعض أولاد المهدي كنت أهواها. وكانت عارفة بالغناء وتحريك الملاهي. فقلت في نفسي: لو كانت الليلة عندنا لتم سروري وطابت ليلتي مما أنا فيه من الفكر والقلق وإذا بداق يدق الباب وهو يقول: أيدخل محبوب على الباب واقف. فقلت في نفسي: لعل غرس التمني أثمر. فقمت إلى الباب، فإذا بصاحبتي وعليها مرط أخضر قد اتشحت به وعلى رأسها وقاية من الديباج تقيها من المطر. وقد غرقت في الطين إلى ركبتيها وابتل ما عليها من المزاريب، وهي في حال عجيب فقلت لها: يا سيدتي، ما الذي أتى بك في مثل هذه الأوحال.

فقالت: قاصدك جاءني ووصف ما عندك من الصبابة والشوق، فلم يسعني إلا الإجابة والإسراع نحوك.

فعجبت من ذلك وكرهت أن أقول لها إني لم أرسل إليك أحداً.

فقلت: أحمد الله على جمع الشمل بعدما قاسيت من ألم الصبر، ولو كنت أبطأت علي ساعة كنت أحق بالسعي إليك، فإني كثير الصبابة نحوك. ثم قلت لغلامي: هات الماء.

فقبل بسخانة فيها ماء حار حتى أصلح لها حالها ثم أمرته أن يصب الماء على رجليها وتوليت غسلهما. ثم دعوت ببذلة من أفخر الملبوس فألبستها إياها بعد أن نزعت ما كان عليها، وجلسنا ثم استدعيت بالطعام فأبت، فقلت: هل لك في الشراب؟ فقالت: نعم.

فتناولت أقداحاً ثم قالت: من يغني لي؟ فقلت لها: أنا يا سيدتي.

فقالت: لا أحب.

فقلت: بعض جواري.

قالت: لا أريد.

<<  <   >  >>