ويحكى عن إسحاق الموصلي أنه قال: خرجت ليلة من عند المأمون متوجهاً إلى بيتي، فأحسست بالبول، فعمدت لزقاق، وقمت لأتمسح بالحيطان، وإذا بزنبيل كبير بأربعة آذان ملبس ديباجاً، فقلت: إن لهذا سبباً وبقيت متحيراً في أمره، فحملني السكر وقال لي: اجلس فيه، فجلست، فلما أحس بي الذين كانوا يرقبونه جذبوه إلى رأس الحائط، فإذا أنا بأربع جوار يقلن لي: انزل بالرحب والسعة ومشت بين يدي جارية بشمعة حتى نزلت إلى دار ومجالس مفروشة لم أر مثلها إلا في دار الخلافة فجلست، فما شعرت بعد ساعة إلا بستور قد رفعت في ناحية من الجدران، وإذا بوصائف يتمشين وفي أيديهن الشمع وبعض مجامر يحرق فيهن العود وبينهن جارية كأنها البدر الطالع، فنهضت وقالت: مرحباً بك من زائر وجلست، ثم سألتني عن خبري فقلت: انصرفت من عند بعض إخواني وغرني الوقت وحرقني البول، فعمدت إلى هذا الزقاق، فوجدت زنبيلاً معلقاً، فحملني السكر على أن جلست فيه، فإن كان خطأ فالنبيذ أكسبنيه.
قالت: لا ضير، وأرجو أن تحمد عاقبة أمرك، ثم قالت: فما صناعتك؟ قال: بزاراً ببغداد.
فقالت: هل رويت من الأشعار شيئاً؟ قلت: شيئاً ضعيفاً.
قالت: فذاكرنا شيئاً.
قلت: إن للداخل حشمةً، ولكن تبدئين أنت.
قالت: صدقت، فأنشدتني شعراً لجماعة من القدماء والمحدثين من أجود أقاويلهم، وأنا مستمع لا أدري مم أعجب من حسنها أم حسن روايتها؟ ثم قالت: أذهب ما كان فيك من الحصر؟ قلت: إي والله.
قالت: فإن رأيت أن تنشدنا.
فأنشدتها شيئاً لجماعة من القدماء ما فيه مقنع، فاستحسنت ذلك، ثم قالت: والله ما ظننت أنه يوجد في أبناء السوقة هذا، ثم أمرت بالطعام فأحضر، فجعلت تقطع وتضع قدامي، وفي المجلس من صنوف الرياحين وغريب الفواكه ما لا يكون إلا عند السلطان، ودعت بالشراب، فشربت قدحاً، ثم ناولتني قدحاً، ثم قالت هذا أوان المذاكرة والأخبار، فاندفعت أذاكرها وقلت: بلغني أن كذا وكذا، وكان رجل يقال له كذا، حتى أتيت على