ومما وضع في بطون الدفاتر، واستحسنته عيون البصائر، ونقلته الأصاغر عن الأكابر، ما رواه خادم أمير المؤمنين المأمون قال: طلبني أمير المؤمنين المأمون ليلةً، وقد مضى من الليل ثلثه، فقال لي: خذ معك فلاناً وفلاناً، وسماهما لي: أحدهما، علي بن محمد، والآخر، دينار الخادم، واذهب مسرعاً لما أقول لك، فإنه بلغني أن شيخاً يحضر ليلاً إلى آثار دور البرامكة، وينشد شعراً ويذكرهم ذكراً كثيراً ويندبهم ويبكي عليهم، ثم ينصرف فامض أنت وعلي ودينار حتى تردوا تلك الخرائب فاستتروا خلف بعض الجدران، فإذا الشيخ قد جاء وبكى وندب وأنشد أبياتاً فآتوني به.
قال: فأخذتهما ومضينا حتى أتينا الخرائب، فإذا نحن بغلام قد أتى ومعه بساطٌ وكرسي حديد، وإذا شيخ قد جاء وله جمال وعليه مهابة ولطف، فجلس على الكرسي وجعل يبكي وينتحب ويقول هذه الأبيات:
ولما رأيت السيف جندل جعفراً ... ونادى منادٍ للخليفة: يا يحيى
بكيت على الدنيا وزاد تأسفي ... عليهم وقلت: الآن لا تنفع الدنيا
مع أبيات أطالها. فلما فرغ قبضنا عليه، وقلنا له: أجب أمير المؤمنين، ففزع فزعاً شديداً وقال: دعوني حتى أوصي بوصية فإني لا أوقن بعدها بحياة.
ثم تقدم إلى بعض الدكاكين واستفتح وأخذ ورقة وكتب فيها وصية وسلمها إلى غلامه ثم سرنا به، فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين قال: حين رآه: من أنت، وبم استوجبت منك البرامكة ما تفعله في خرائب دورهم؟ قال الخادم: ونحن نستمع.
فقال: يا أمير المؤمنين، إن للبرامكة أيادي خضرة عندي، أفتأذن لي أن أحدثك بحالي معهم؟ قال: قل.
فقال: يا أمير المؤمنين؟؟! أنا المنذر بن المغيرة، من أولاد الملوك، وقد زالت عني نعمتي، كما تزول عن الرجال، فلما ركبني الدين، واحتجت إلى بيع ما على رأسي ورؤوس أهلي وبيتي الذي ولدت فيه، أشاروا علي بالخروج إلى البرامكة، فخرجت من دمشق ومعي نيف وثلاثون امرأة وصبياً وصبية، وليس معنا ما يباع ولا ما يوهب، حتى دخلنا بغداد ونزلنا في بعض المساجد، فدعوت ببعض ثياب كنت أعددتها لأستتر بها،