عدة أخبار حسان، فسرت بذلك وقالت: كثر تعجبي أن يكون أحد من التجار يحفظ مثل هذا، وإنما هذه أحاديث ملوك.
فقلت: كان لي جار يحادث الملوك وينادمهم، وإذا تعطل حضرت معه فربما حدثت بما سمعت.
فقالت: لعمري، لقد أحسنت الحفظ وما هذه إلا قريحة جيدة.
وأخذنا في المذاكرة، إذا سكت ابتدأت هي، وإذا سكتت ابتدأت أنا حتى قطعنا أكثر الليل وبخور العود يعبق، وأنا في حالة لو توهمها المأمون لطار شوقاً إليها، فقالت: إنك من أرف الرجال، وضيء الوجه بارعٌ في الأدب وما بقي إلا شيء واحد؟ قلت: وما هو؟ قالت: لو كنت تترنم ببعض الأشعار؟ قلت: والله لقديماً كنت ألفته ولم أرزقه وأعرضت عنه، وفي قلبي من حرارة، ولو كنت أحب في مثل هذا المجلس شيئاً منه لتكمل ليلتي.
قالت: كأنك عرضت.
فقلت: والله ما هو تعريض قد بدأت بالفضل، وأنت جديرة بذلك.
فأمرت بعود فحضر، وغنت بصوت ما سمعت بحسنه مع حسن أدبها وجودة الضرب بالكمال الراجح، ثم قالت: هل تعرف هذا الصوت ومن غنى به؟ قلت: لا.
قالت: الشعر لفلان والغناء لإسحاق.
قلت: وإسحاق هذا جعلت فداك بهذه الصفة؟ قالت: بخ بخ! إسحاق بارع في هذا الشأن.
فقلت: سبحان الله أعطي هذا الرجل ما لم يعطه أحد؟ قالت: فكيف لو سمعت هذا الصوت منه.
ثم لم تزل على ذلك حتى إذا كان الفجر أقبلت عجوزٌ كأنها داية لها، وقالت: إن الوقت قد حضر، فنهضت عند قولها، فقالت: لتستر ما كنا فيه فإن المجالس بالأمانات.
قلت: جعلت فداك لم أكن أحتاج إلى وصية في ذلك.
فودعتها، وجارية بني يدي إلى باب الدار ففتح لي فخرجت ورحت إلى داري، فصليت الصبح ونمت، فانتهى رسول المأمون غلي فسرت إليه وأقمت عنده نهاري، فلما كان العشاء تفكرت في ما كنت فهي البارحة، وهذا شيء لا يصبر عليه إلا جاهل،