فقال: فجعت في ابنة عمي في هذه الليلة لأنها كانت توجهت إلينا كعادتها إذ عرض لها في طريقها أسد فافترسها ولم يبق منها إلا ما ترى.
ثم إنه طرح ما كان على يده. فإذا هو مشاش الجارية وما فضل من عظامها. ثم بكى بكاء شديداً ورمى الترس من يده وأخذ كساء على يده ثم قال لي: لا تبرح إلى أن آتيك إن شاء الله تعالى.: ثم سار فغاب عني ساعة ثم عاد وبيده رأس الأسد فطرحه عن يده ثم طلب ماء فأتيته به فغسل فم الأسد وجعل يقبله ويبكي ويئن وزاد حزنه عليها وأنشد يقول:
ألا أيها الليث المدل بنفسه ... هلكت لقد هيجت لي بعدها شجنا
وصيرتني فرداً وقد كنت إلفها ... وصيرت بطن الأرض لي ولها وطنا
أقول لدهر خانني بفراقها ... وغار عليها أن أكن لها حزنا
ثم قال: يا ابن العم، سلتك بالله وبحق القرابة والرحم التي بيني وبينك إلا حفظت وصيتي؟ إنك ستراني الساعة ميتاً بين يديك، فإذا كان كذلك، فغسلني وكفني أنا وهذا الفاضل من مشاش الجارية في هذا الثوب وادفنا في قبر واحد واكتب على قبرنا هذه الأبيات، وأنشد يقول:
كنا على ظهرها، والعيش في رغد ... والشمل مجتمع والدار والوطن
ففرق الدهر والتصريف ألفتنا ... وصار يجمعنا في بطنها الكفن
قال: ثم بكى بكاء شديداً. ثم دخل المضرب وغاب عني ساعة وخرج وجعل يتنهد ويصيح ثم شهق شهقة فارق الدنيا، فلما رأيت ذلك منه عظم علي وكبر عندي حتى كدت ألحق به من شدت حزني عليه، ثم تقدمت إليه وفعلت به ما أمرني من الغسل وكفنتهما جميعاً ودفنتهما في قبر واحد، وأقمت عند قبرهما ثلاث أيام ثم ارتحلت وأقمت سنين أتردد إلى زيارتهما.
وهذا ما كان من حديثهما، يا أمير المؤمنين قال: فلما سمع الرشيد كلامه استحسنه وخلع عليه وأجازه جائزة حسنة، والله أعلم.