قال إبراهيم: فوالله لقد ظننت أن الأبواب والحيطان وكل ما في البيت تجيبه وتغني معه، وبقيت مبهوتاً لا أستطيع الكلام والحركة لما خالط قلبي، ثم اندفع يغني، فقال:
ألا يا حمامات اللوى عدن عودةً ... فإني إلى أصواتكن حزين
فعدن ولما عدن كدن يمتنني ... وكدت بأسراري لهن أبين
دعون بترداد الهدير كأنما ... شربن الحميا أو بهن جنون
فلم تر عيني مثلهن حمائماً ... بكين ولم تدمع لهن عيون
قال: ثم سكت قليلاً وغنى هذه الأبيات:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجد ... فقد زادني مسراك وجداً على وجدي
أإن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على فنن من غصن بان ومن رند
بكيت كما يبكي الوليد صبابةً ... وأبديت من شكواي ما لم تكن تبدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنا ... تمل وأن البعد يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خيرٌ من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس بذي ود
ثم قال: يا إبراهيم هذا الغناء الماخوري خذه وانح نحوه في غنائك وعلمه جواريك.
فقلت: أعده علي؟ فقال: لست تحتاج إلى إعادة فقد أخذته وفرغت منه.
ثم غاب من بين يدي فارتعبت منه وقمت إلى السيف وجردته ثم غدوت نحو أبواب الحريم فوجدتها مغلقة، فقلت للجواري: أي شيء سمعتن؟ فقلن: سمعنا غناء أطيب شيء وأحسنه.
فخرجت متحيراً إلى باب الدار فوجدته مغلقاً فسألت البوابين عن الشيخ فقالوا: أي شيخ، فوالله ما دخل إليك اليوم أحد.
فرجعت أتأمل أمره، فإذا هو قد هتف بي من جوانب البيت، وقال: لا بأس عليك يا أبا إسحاق، فإنما هو أبو مرة قد كنت نديمك اليوم، فلا تفزع.
فركبت إلى الرشيد فأخبرته الخبر، فقال: أعد الأصوات التي أخذتها، فأخذت العود وضربت، فإذا هي راسخة في صدري، فطرب الرشيد عليها وجعل يشرب، ولم يكن له همة على الشراب، وقال: كأن الشيخ علم أنك قد أخذت الأصوات وفرغت منها فليته متعنا بنفسه يوماً واحداً كما متعك، ثم أمر لي بصلة فأخذتها وانصرفت، انتهى.