قلت: من أي عروض أو قافية؟ قال: لا أدري إلا أنه بيت فيه إبريق.
فقلت في نفسي: إن لم تغن الرواية يوماً، فالآن. ففكرت في نفسي ساعة، ثم قلت: نعم يا أمير المؤمنين، لعله قول التبع اليماني، أو عدي بن زيد العبادي:
بكر العاذلون في وضح الصب ... ح يقولون لي: أما تستفيق
ويلومون فيك يا ابنة عبد الله ... والقلب عندكم موثوق
لست أدري إذ العذل فيها ... أعدو يلومني أم صديق
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينةٌ في يمينها إبريق
فصاح يزيد وقال: هو والله الشعر بعينه وشرب وقال: يا جارية اسقه، فسقتني كأساً أذهبت ثلث عقلي، ثم استعاد الشعر وشرب وقال: اسقه، فسقتني، فقلت: يا أمير المؤمنين، ذهب ثلثا عقلي.
فقال: سل حاجتك قبل أن يذهب الثلث الآخر.
فقلت: إحدى هاتين الجاريتين.
فقال: هما لك بمالهما وما عليهما، ومائة ألف تحسن بها سيرك، ثم ناولتني الجارية كأساً فشربتها وانصرفت ونهضت، وقد ذهب عقلي، فعدل بي إلى دار الضيافة فانتبهت آخر الليل، وإذا بشمع يوقد والجاريتان يرصان الأمتعة، والبغال تحمل ما لهما من أثاث وغيره، وأصبحت قبضت المال وانصرفت، وأما أيسر أهل الكوفة، انتهى.
ولما وقف الشيخ تقي الدين بن حجة رحمه الله، على هذه الحكاية، قال: انظر أيها المتأدب نفاق سوق الأدب في ذلك الأرب، وبشهادة الله أن البيت الذي طلب حماد الراوية بسببه من العراق إلى دمشق، وأجيز عليه بالجاريتين والمائة ألف تأنف نفسي أني أنظمه في سلك قصيدة من قصائدي، وهو هذا البيت.
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينةٌ في يمينها إبريق
وكنت أريد أن أكون في ذلك العصر ويسمع يزيد بن عبد الملك من نظمي في هذا الباب قولي:
في ليلة رقم البدر المنير لها ... طاراً له بعصا الجوزاء نقرات
وبان لي من لماها حين تبسم لي ... فوق اللثا واللمى در وعقبات
والراح دبت على فهمي فصورها ... لكن لها ضاع في الكاسات نفحات