فلما وافاه أضعف الهدية، ورد الرسول إلى عبد الملك وقال: إني ظننت أنك استقللت الهدية، فلم تقبلها ولم تجبني إلى كتابي فأضعفت الهدية، وأنا أرغب إليك مثل ما رغبت فيه أولاً من رد الطراز إلى ما كان عليه.
فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يجبه ورد الهدية، فكتب إليه ملك الروم كتاباً يقتضي أجوبة كتبه ويقول: إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي فتوهمت أن استقللت الهدية فأضعفتها، فجريت على سبيلك الأول، وقد أضعفتها لك ثالثاً، وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدراهم والدنانير، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلا ما ينقش في بلادي، ولم أر الدراهم والدنانير نقشت في بلاد الإسلام فتنقش عليها شتم نبيك، فإذا قرأته ارفضَّ جبينك عرقاً، فأحب أن تقبل هديتي، وترد الطراز إلى ما كان عليه أول الأمر، وكانت هدية بررتني بها ويبقى الأمر بيني وبينك.
فلما قرأ عبد الملك الكتاب صعب عليه، وعظم، وضاقت به الأرض وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام لأني جنيت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شتم هذا الكافر ما يبقى إلى أبد الدهور. ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب، إذ كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم، فجمع أهل الإسلام واستشارهم، فلم يجد عندهم رأياً يعمل به، فقال له روح بن زنباع: إنك لتعلم المخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه.
فقال: ويحك بم؟ قال: عليك بالباقر من آل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: صدقت، ويمكنه يا روح الرأي فيه. قال: نعم.
فكتب إلى عامله بالمدينة أن أرسل محمد بن علي بن الحسين مكرماً ومتعه بمائة ألف درهم لجهازه وثلاثمائة درهم لنفقته، وأرح عليه في جهازه وجهاز من يخرج معه من أصحابه. وحبس الرسول قبله إلى موافاة محمد بن علي، فلما وافاه أخبره الخبر فقال له محمد رضي الله عنه: لا يعظم هذا عليك، فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما أن الله عز وجل لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والثانية تدعو في هذا الوقت بصناع يضربون سككاً للدراهم والدنانير وتجعل النقش عليها سورة التوحيد، وذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحداهما في وجه الدرهم والدينار والأخرى في الوجه الثاني