قال: فنهضت عند ابتدائه الأبيات أؤم الصوت فما انتهى لآخر الأبيات إلا وأنا عنده، فرأيت غلاماً ما سال عذاره، وقد خرج الدمع وجنتيه خرقين، فقلت: نعمت غلاماً! فقال: وأنت، فمن الرجل؟ قلت: عبد الله بن معمر القيسي.
قال: أفلك حاجة؟ قلت له: كنت جالساً في الروضة، فما راعني في هذه الليلة إلا صوتك فبنفسي أفديك، ما الذي تجده؟ قال: اجلس! فجلست، أنا عتبة بن الخباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري، غدوت إلى مسجد الأخراب فبقيت راكعاً وساجداً ثم اعتزلت غير بعيد، فإذا بنسوة يتهادين كالأقمار، وفي وسطهن جارية بديعة الجمال كاملة الملاحة فوقفت علي، وقالت: يا عتبة، ما تقول في وصل من يطلب وصلك؟ ثم تركتني وذهبت. فلم أسمع لها خبراً ولا وقفت لها على أثر. فأنا حيران أتنقل من مكان إلى مكان.
ثم صرخ وانكب على الأرض مغشياً عليه، ثم أفاق كأنما صبغت ديباجتا خديه بورس ثم أنشد يقول هذه الأبيات:
أراكم بقلبي من بلاد بعيدة ... تراكم تروني بالقلوب على بعد
ولست ألذ العيش حتى أراكم ... ولو كنت في الفردوس أو جنة الخلد
قال: فقلت له: يا ابن أخي تب إلى ربك واستقل من ذنبك، فإن بين يديك هول المطلع.
فقال: هيهات ما أنا بسال حتى يثوب القارظان.
ولم أزل به حتى طلع الفجر، فقلت: قم بنا إلى مسجد الأخراب، فقمنا إليه فجلسنا حتى صلينا الظهر، وإذا بنسوة قد أقبلن وأما الجارية فليست فيهن فقلن: يا عتبة ما ظنك بطالبة وصلك وكاشفة ما بك؟ قال: وما بالها قلن: أخذها أبوها وارتحل إلى السماوة. فسألتهن على الجارية فقلن: هي ريا بنت الغطريف السلمي، فرفع رأسه وأنشأ يقول: