ما أقتل البين للمحب. وما ... أوجع قلب المحب بالكمد
عرضت نفسي على البلاء لقد ... أسرع في مهجتي وفي كبدي
يا حسرةً! إذ أبيت معتقلاً ... بين اختلاج الهموم والسهد
فقلت: أحسنت والله زدنا، فقال:
إن فتشوني فمحرق الكبد ... أو كشفوني فناحل الجسد
أضعف ما بي وزادني ألماً ... أن لست أشكو النوى إلى أحد
فقلت: أحسنت والله زدنا.
فقال: يا فتى، أراك كلما أنشدتك بيتاً قلت زدنا، وما ذاك إلا لمفارقة حبيبٍ أو خل أريب، ثم قال: أحسبك أبا العباس المبرد. بالله ما هو أنت.
قلت: أنا ذلك فمن أين عرفتني؟ فقال: وهل يخفى القمر؟ ثم قال: يا أبا العباس، أنشدني من شعرك شيئاً تنتعش به روحي، فأنشدته قولي:
بكيت حتى بكى من رحمتي الطلل ... ومن بكائي بكت أعداي إذ رحلوا
يا منزل الحي! أين الحي قد نزلوا؟ ... نفسي تساق إذا ما سيقت الإبل
أنعم صباحاً، سقاك الله من طلل ... غيثاً وجاد عليك الوابل الهطل
سقياً لعهدهم والدار جامعة ... والشمل ملتئم والحبل متصل
فطالما قد نعمنا والحبيب بها ... والدهر يسعد والواشون قد غفلوا
قد غير الدهر ما قد كنت أعرفه ... والدهر ذو دول بالناس ينتقل
بانوا فبان الذي قد كنت آمله ... والبين أعظم ما يبلى به الرجل
فالشمل مفترق، والقلب محترق ... والدمع منسكب، والركب مرتحل
كأن قلبي لما سار عيسهم ... صب به دنف أو شارب ثمل
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم ... وثوروها وسارت بالهوى الإبل
وقلت من خلال السجف ناظرها ... ترنوا لي، ودمع العين منهمل
يا حادي العيس! عرج بي أو دعهم ... يا حادي العيس في ترحالك الأجل
إني وحقك لا أنس مودتهم ... يا ليت شعري لطول العهد ما فعلوا؟
قال أبو العباس المبرد: فلما أتممت شعري. قال لي: ما فعلوا؟ قلت: ماتوا، فصاح صيحة عظيمة وخر مغشياً عليه، فحركته فوجدته قد مات. رحمة الله عليه. انتهى.