لأن إيمانهم مرتبط بالمعقول، فأول آية تظهر لهم من قدرة الله تعالى أن يطيح عقله عند شهودها فيذهب إيمانه ولا يثبت لمعاينتها، كما تحترق الفتيلة فيسقط المصباح.
والطبقة الثانية أهل الكبر والإنكار لآيات الله عزّ وجلّ وكراماته لأوليائه في الحياة الدنيا، لأنهم لم يكن لهم يقين يحمل القدرة ويمده الإيمان؛ فيعتورهم الشك ويقوى عليهم لفقد اليقين.
والطبقة الثالثة ثلاثة أصناف: متفرقون متفاوتون في سوء الخاتمة، وجميعهم دون تينك الطائفتين في سوء الخاتمة، لأن سوء الختم على مقامات أيضاً كمقامات اليقين والشرك في عمر الحياة، منهم المدعي المتظاهر الذي لم يزل إلى نفسه وعمله ناظراً، والفاسق المعلن، والمصرّ المدمن، يتصل بهم المعاصي إلى آخر العمر، ويدوم تقلبهم فيها إلى كشف الغطاء، فإذا رأوا الآيات تابوا إلى الله تعالى بقلوبهم، وقد انقطعت أعمال الجوارح فليس يتأتى منهم، فلا تقبل توبتهم، ولا تقال عثرتهم، ولاترحم عبرتهم، وهم من أهل هذه الآية، (ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ للَّذينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتّى إذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ: إنِّي تُبْتُ الآنَ) النساء: ١٨ فهم مقصودون بقوله عزّ وجلّ: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) سبأ: ٥٤ وهم معنيون بمعنى قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوا بَأْسَنا قَالُوا: آَمَنَّا باللهِ وَحْدَهُ) غافر: ٨٤، فنصوص الآية للكفار ومعناها ومقام منها لأهل الكبائر وذوي الإصرارمن الفاسقين الزائغين، من حيث اشتركوا في سوء الخاتمة ثم تفاوتوا في مقامات منها، تظهر لهم شهوات معاصيهم، ويعاد عليهم تذكرها، لخلو قلبهم من الذكر والخوف حتى يختم لهم بشهادتها؛ فهذه الأسباب تجلب الخوف وتقطع قلوب ذوي الألباب.
وقد كان أبو محمد سهل رحمه الله يقول: المريد يخاف أن يبتلي بالمعاصي، والعارف يخاف أن يبتلي بالكفر.
وكذلك قال أبو يزيد رحمه الله تعالى قبله: إذا توجهت إلى المسجد كان في وسطي زنار أخاف أن يذهب بي إلى البيعة وبيت النار حتى أدخل المسجد فيقطع عني الزنار، فهذا لي في كل يوم خمس مرات، هذا لعلمهم بسرعة تقلّب القلوب في قدرة علام الغيوب.
وقد روينا معنى ذلك عن عيسى عليه السلام أنه قال: يا معشر الحواريين أنتم تخافون المعاصي ونحن معشر الأنبياء نخاف الكفر.
وروينا في أخبار الأنبياء: أن نبياً شكا إلى الله تعالى الجوع والقمل والعري سنين فأوحى الله تعالى إليه: أما رضيت أن عصمت قلبك أن تكفر بي حتى تسألني الدنيا، فأخذ التراب فوضعه على رأسه وقال: بلى قد رضيت يارب فاعصمني من الكفر فلم يذكر له نعمته عليه بنبوته وعرضه للكفر، وجوز دخوله عليه بعد النبوة، فاعترف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، ورضي به واستعصم.