للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد كان عبد الواحد بن زيد إمام الزاهدين قبلهما يقول: ماصدق خائف قط ظن أنه لا يدخل النار وما ظن أن يدخل النار إلا خاف أن لا يخرج منها أبداً.

وقد قال الحسن البصري رحمه الله تعالى إمام العلماء قبلهم: يخرج من النار رجل بعد ألف عام وياليتني ذلك الرجل، هذا لشدة خوفه من الخلود في الأبدية، قال فبعد أن أخرج منها بوقت لا أبالي.

والعدو يدخل على العارفين من طريق الإلحاد في التوحيد والتشبيه في اليقين والوسوسة في صفات الذات، ويدخل على المريدين من طريق الآفات والشهوات، فلذلك كان خوف العارفين أعظم، ومن قبل أن العدو يدخل على كل عبد من معنى همه فيشككه في اليقين كما يزين له الشهوات، فأرواحهم معلقة بالسابقة ماذا سبق لهم من الكلمة، هناك مشاهدتهم، ومن ثم فزعهم، لايدرون أسبق لهم قدم صدق عند ربهم فيختم لهم بمقعد صدق، فيكونون ممن قال تعالى: (إنَّ الّذيْنَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُون) الأنبياء: ١٠١ ويخافون أن يكونوا قد حقت عليهم الكلمة، فيكونون ممن قال فيهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول اللّّه سبحانه وتعالى هؤلاء في النار ولا أبالي فلا ينفعهم شفاعة شافع، ولاينقذهم من النار دافع، كما قال مولاهم الحق: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ في النَّارِ) الزمر: ١٩ وكقوله تعالى: (ولَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ) السجدة: ١٣ فهذه الآية ومعناها تخويف لأولي الأبصار.

وقال عالمنا رحمه الله في قوله تعالى (وَإيَّايَ فَاتَُّقونِ) البقرة: ٤١ عموم أي فيما نهيت عنه: وقوله تعالى (وإيَّايَ فَارْهَبُونِ) البقرة: ٤٠ أي في السابقة وهذا خصوص.

وقد نوع بعض العارفين خوف المؤمنين على مقامين فقال: قلوب الأبرار معلقة، بالخاتمة يقولون: ليت شعري ماذا يختم لنا به؟ وقلوب المقربين معلقة بالسابقة يقولون: ليت شعري ماذا سبق لنا به؟ وهذان المقامان عن مشاهدتين: إحداهما أعلى وأنفذ من الأخرى لحالين: أحدهما أتم وأكمل، فهذا كما قيل ذنوب المقربين حسنات الأبرار: أي ما يرغب فيه الأبرار فهو عندهم فضائل، قد زهد فيه المقربون، فهو عندهم حجاب، ومن حقت عليه كلمة العذاب، وسبق له من مولاه الختم بسوء الاكتساب، لم ينفعه شيء، فهو يعمل في بطالة لا أجر له ولا عاقبة قد نظر إليه نظرة بعذ؛ فهو يزداد بأعماله بعداً من قبل أن سوء الخاتمة قد تكون في وسط العمر، فلا ينتظر بها آخره يوافق معصية تكون سببها كعند الخاتمة، إذ هما في سبق العلم سواء، فالخاتمة حينئذ فاتحة، والوقتان واحد.

فإذا انقطعت الآجال وانتهت الأعمال تناهي في الإبعاد فحلّ في دار البعد، وقد روينا في الخبر والله لا يقبل الله تعالى من مبتدع عملاً إنه ردّ على اللّّه تعالى سننه فرد عليه عمله كلما ازداد اجتهادًا ازداد من اللّّه تعالى بعداً، كما قال الحكيم:

من غص داوى بشرب الماء غصته ... فكيف يصنع من قد غص بالماء

<<  <  ج: ص:  >  >>