للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بل كيف يصنع من أقصاه مالكه ... فليس ينفعه طب الأطباء

وعن مشاهدة هذا المعنى كان خوف الحسن البصري رحمه الله تعالى وحزنه، لعلمه بأنه عزّ وجلّ لايبالي ما فعل، فخاف أن يقع بوصف الجبرية في ترك المبالاة، وأن يجعله نكالاً لأصحابه، وموعظة لأهل طبقته.

ويقال إنه ما ضحك أربعين سنة وكنت إذا رأيته قاعداً كأنه أسير قدم ليضرب عنقه، وإذا تكلم كأنه يعاين الآخرة فيخبر عن مشاهدتها، وإذا سكت كأن النار تسعر بين عينيه، وعوتب في شدة حزنه فقال: ما يؤمنني أن يكون قد اطلع عليَّ في بعض ما يكره فمقتني، فقال اذهب فلا غفرت لك، فأنا أعمل في غير معمل، فنحن أحق بهذا من الحسن رحمه اللّّه، ولكن ليس الخوف يكون لكثرة الذنوب، فلو كان كذلك لكنا أكثر خوفًا منه، إنما يكون لصفاء القلب وشدة التعظيم لله تعالى.

وقد بشر العلاء بن زياد العدوي بالجنة وكان من العباد فغلق عليه بابه سبعاً ولم يذق طعامًا، وجعل يبكي ويقول: أنا في قصة طويلة، حتى دخل عليه الحسن فجعل يعذله في شدة خوفه وكثرة بكائه، فقال يأخي من أهل الجنة إن شاء الله تعالى، أقاتل نفسك؟ فما ظنك برجل يعذله الحسن في الخوف، وقد كان من فوقهم من عليه الصحابة يتمنون أنهم لم يخلقوا بشرًا وقد بشروا بالجنة يقينًا في غير خبر.

من ذلك قول أبي بكر رضي الله عنه: ليتني مثلك ياطير وأني لم أخلق بشرًا، وقول عمر رضي الله عنه: وددت أني كنت كبشاً ذبحني أهلي لضيفهم، وأبوذر رضي الله عنه يقول: وددت أني شجرة تعضد، وطلحة والزبير رضي الله عنهما يقولان: وددنا أنّا لم نخلق، وعثمان رضي الله عنه يقول: وددت أني إذا متّ لا أبعث، وعائشة رضي الله عنها تقول: وددت أني كنت نَسْيًا مَنْسِيًا، وابن مسعود رضي الله عنه يقول: ليتني أني أكون رماداً، وفي رواية عنه: ليتني كنت بعرة، ليتني لم أك شيئًا في طبقة يكثر عدهم ونحن في ارتكاب الكبائر ونحدث نفوسنا بالدرجات العلى والقرب من سدرة المنتهى، ونسينا أن أبانا آدم صلوات الله عليه أخرج من الجنة بعد أن دخلها بذنب واحد ونحن لم نرها بعد فإنما نضرب في حديد بارد.

وروينا في خبر أن رجلاً من أهل الصفة استشهد فقالت أمه هنيئًا فقالت أمه هنيئًا لك عصفور من عصافير الجنة هاجرت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقتلت في سبيل اللّّه تعالى فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما يدريك فلعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضرّه، وفي حديث آخر بمثل هذه القصة أنه دخل على بعض أصحابه وهو عليل، فسمع أمه تقول هنيئًا لك الجنة، فقال: من هذه المتألية على الله عزّ وجلّ فقال الرجل: هي أمي يا رسول الله فقال: وما يدرك لعل فلانًا كان يتكلم بما لا يعنيه ويبخل بما لا يغنيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>