غيب عنهما، وعلما أنهما لا يقفان على غيب الله تعالى، إذ هو علام الغيوب، فلا نهاية للعلام في علم، ولا غاية للغيوب بوصف، فلم يحكم عليهما القول لعنايته بهما وفضل نظره إليهما، ولأنهما على مزيد من معرفة الصفات، إذ المكر عن الوصف وإظهار القول لايقضي على باطن الوصف، فكأنهما خافا أن يكون قوله تعالى: قد أمنتكما مكري مكراً منه أيضًا بالقول على وصف مخصوص عن حكمة قد استأثر بعلمها يختبر بذلك حالهما، وينطر كيف يعملان تعبدًا منه لهما به، إذ الابتلاء وصفه من قبل أن المبتلي اسمه فلا يترك مقتضى وصفه لتحقق اسمه، ولا تبدل سنته التي قد خلت في عباده، كما اختبر خليله عليه السلام لما هوى به المنجنيق في الهواء، فقال حسبي الله ربي فعارضه جبريل عليه السلام فقال ألك حاجة؟ قال لا، وفاء بقوله حسبي الله فصدق القول بالعمل فقال الله تعالى:(وإبْرَاهِيمَ الّذِي وَفَّى) النجم: ٣٧ بقوله حسبي اللهولأن الله تعالى لا يدخل تحت الأحكام؛ ولا يلزمه ما حكم به على الأنام، ولا يختبر صدقه سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن يوصف بضد الصدق وأن بدل الكلم هو بتبديل منه، لأن كلامه قائم به، فله أن يبدل به ماشاء، وهو الصادقين في الكلامين، العادل في الحكمين، الحاكم في الحالين، لأنه حاكم عليه ولا حكم يلزمه فيه، لأنه قد جاز العلوم والعقول التي هي أماكن للحدود من الأمر والنهي، وفات الرسوم والمعقول التي هي أواسط الأحكام والأقدار.
وفي مشاهدة ما ذكرناه علم دقيق من علوم التوحيد، ومقام رفيع من أحوال التوحيد وبمثل هذا المعنى وصف صفيه موسى في قوله تعالى (فَأَوْجَسَ في نفسه خيفة موسى) طه: ٦٦ بعد قوله تعالى (لا تخافا إنني معكما) طه: ٤٦ الآية، فلم يأمن موسى أن يكون قد أسر عنه في غيبه، واستثنى في نفسه سبحانه ما لم يظهره له في القول، لمعرفة موسى عليه السلام بخفي المكر وباطن الوصف، ولعلمه أنه لم يعطه الحكم إذ هو محكوم عليه مقهور، فخاف خوفًا ثانياً حتى أمنه أمناً ثانياً بحكم ثان، فقال:(لا تخف إنك أنت الأعلى) طه: ٦٨ فاطمأن إلى القائل ولم يسكن إلى الإظهار الأول، لعلمه بسعة علمه أنه هو علام الغيوب التي لا نهاية لها، ولأن القول أحكام والحاكم لا تحكم عليه الأحكام كما لا تعود عليه الأحكام، وإنما تفصل الأحكام من الحاكم العلام، ثم تعود على المحكومات أبدًا، ولأنه جلت قدرته لا يلزمه مالزم الخلق الذي هم تحت الحكم، ولايدخل تحت معيار العقل والعلم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرًا، عند من عرفه فأجله وعظمه عن معارف من جهله.
ومن هذا قول عيسى عليه السلام من قوله تعالى:(إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا في نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ) المائدة: ١١٦ لما قال له: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُوني وَأُمِّيَ إلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّّهِ) المائدة: ١١٦ ومثل هذا قوله في يوم القيامة (إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ) المائدة: ١١٨ فجعلهم في مشيئة لعزته وكحمته ولا يصلح أن نكشف حقيقة ما فصلناه في