الزهد يدعو إلى إخراج الشيء، والبخل يدعو إلى إمساكه، فنفس السخاء زهد، فلذلك ذمّ البخل لأنه رغبة في الدنيا، ثم إن الحرص علامة البخل لأنه دليل الرغبة، والقناعة علامة السخاء لأنها باب الزهد، فلذلك قيل: سخاء النفس عمّا في أيدي النفس أفضل من سخاء البذل، ثم يفترقان في الحكم بعد اجتماعهما في الإسم، فمن جاد بملكه لله تعالى كان زاهداً فيه لله تعالى ووقع أجره على الله، ومن جاد بما له لأجل الناس كان أيضاً زاهدًا في ذلك موصوفاً بالسخاء، ولكن ذلك لنفسه ولأجل هواه ولا أجر له عند الله تعالى إذ لم يكن من عمّال الله تعالى فبطل أجره لأنه عمل لنفسه وحصل شكره وذكره في الدنيا لأنه عمل لأجل الناس.
كما قال ابن المبارك رحمه الله: ما رأيت بين الفتوة والقراءة فرقاً إلا في شيء واحد ماحظرت القراءة شيئاً إلا قبحته الفتوة وإنما يفترقان في أن القراءة يراد بها وجه الله تعالى، والفتوة يراد بها وجوه الناس ومدحهم وقد كان أستاذه سفيان الثوري رحمه الله يقول: من لم يحسن يتفتى لم يحسن يقترّى أيّ من لم يعرف أحكام التفتي فيقوم بها حتى يستحق وصف فتى لم يحكم أوصاف التقري حتى يوصف بأنه قارئ، ثم إن العبد قد يجاهد نفسه على الزهد كما يجاهدها على مخالفة الهوى وكما يجاهدها بالصبر على الحقّ بأن يهرج المرغوب وينفق المحبوب على كراهة من النفس وجمل بالزهدعليها فيكون له مقام في الزهد ينال البرّ ويستوجب مدحًا من البرّ، والمتزهد غير الزاهد، وهو الذي يتصنْع للزهد ويعمل في أسبابه من التقلّل ورثاثة الحال في كل شيء، فمثله مثل المتصّبرين من الصابر الذي يجهل على نفسه بالصبر ويصابرها على العلم، فيكون له مقام من الصبر، وصفوة الزهد انتظارالموت وقصر الأمل لأن فيهما ترك الادخار وتحسين الأعمال.
وقال ابن عيينة: حدّ الزهد أن يكون شاكراً عند الرخاء صابراً عند البلاء.
وقال بشر بن الحارث رحمه الله: الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس، من زهد فيهم فقد زهد في الدنيا، وكذلك قال بعض الحكماء: إذا طلب الزاهد الناس فاهرب منه، وإذا هرب من الناس فاطلبه، وقيل ليحيى بن معاذ رحمه الله: متى يكون الرجل زاهدًا؟ فقال: إذا بلغ حرصه في ترك الدنيا حرص الطالب لها كان زاهدًا، وقال قاسم الجوعي: الزهد في الدنيا هو الزهد في الجوف بقدر ما تملك من بطنك، كذلك تملك من الزهد فكانت الدنيا عنده الشبع وأكل الشهوات، وقال فضيل بن عياض رحمه الله: الزهد هو القناعة فكانت الدنيا عنده هو الحرص والشره، وقال الثوري: الزهد هو قصر الأمل فكانت الدنيا عنده طول الأمل، وكان أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى يقول: الدنيا كلّ ما يشغلك عن الله تعالى