فكان الزهد عنده التفرغ لله تعالى، وقد قال: إنما الزاهد من تخلى عن الدنيا واشتغل بالعبادة والاجتهاد، فأما من تركها وتبطل فإنما طلب الراحة لنفسه، وكان داود الطائي رحمه الله تعالى يقول: كلّ ما شغلك عن الله تعالى من أهل أو مال فهوعليك شؤم.
وقال أبو سليمان: من تزوّج أو كتب الحديث أو طلب معاشًا فقد ركن إلى الدنيا وقرأ قوله تعالى: (إلامَنْ أَتى الله بَقَلْبٍ سليمٍ) الشعراء: ٨٩ قال: هو القلب الذي ليس فيه غير اللّّه تعالى، وقال: إنما زهدوا في الدنيا لتفرّغ قلوبهم من همومها للآخرة، وقد قال أويس القرني رحمه الله تعالى: إذا خرج يطلب ذهب الزهد وكان إمامنا وشيخ شيخنا أبومحمد سهل بن عبد الله رحمه الله يقول: أوّل الزهد التوكّل وأوسطه إظهار القدرة وقال: لا يزهدالعبد زهدًا حقيقيًا لا رجعة بعده إلابعد مشاهدة قدرة، فإن أوّل القدرة عندي أن يشهد ما سمع من كلام القادر المزهد إذ يقول تبارك وتعالى:(ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله) الرعد: ٧١، فالحلية الذهب والفضة؛ وهما قيم الأشياء اللذان ملكا النفوس ونكسا الرؤوس فالمتاع ما سواهما من معادن الأرض، فإذا شهد العبد الذهب الذي هو سبب الدنيا ولأجله أشرك من أشرك وبحبائله ارتبك من ارتبك ولوقوع حلاوته في القلب وقع من وقع، فإذا شهد جوهر الذهب والفضة زبداً طافيًا على وجه الماء لا نفع فيه ولا غنية به ولا قيمة له زهد فيه حينئذ زهدا صادقًا فكان زهده معاينة لا خبرًا وكان من المؤمنين حقًّا الذين وصفهم الحقّ بالحقّ في قوله تعالى:(اِذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوُبُهُمْ وَإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًاَ) الأنفال: ٢ فالزهد مزيد الإيمان ثم قال: وعلى ربّهم يتوكّلون، فالزهد يدخل في التوكّل ثم قال: فاتخذه وكيلاً واصبر على ما يقولون، فالتوكل يوقف على الصبر، وكان هذا قد سمع من كلام الله تعالى ففعله فأبلغه الله تعالى مأمنه في المقام الأمين في جنات وعيون، واستحق وصف الله تعالى بالإيمان إذا تلا القرآن بحقيقة الإيقان فقال عزّ وجلّ:(الّذينَ آتَيْنَاهمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تلاوَته أولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) البقرة: ١٢١ وذلك أن هذا الزبد تشبيه من الله تعالى لمثل ضربه للحّق والباطل، فالمثل هو الماء والزبد فمثل الحقّ في نفعه وبقائه بالماء، ومثل الباطل في ذهابه وقلة نفعه بالزبد، ثم شبّه الذهب لذهابه عن الحقيقة بالزبد تشبيه مماثلة لا تشبيه مجاز لقوله: زبد مثله، والمماثلة مستقصاة، ثم قال: كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى أي الجنة والبقاء.
وقال تعالى:(لِلَّذين لايُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السّوْء) النحل: ٠٦ هم المريدون للحياة الدنيا وزينتها، الراضون المطمئنون بها، ليس لهم في الآخرة إلا النار، فسبحان من نفد بصره الأبصار وسبحان مقلب الليل والنهار، وسبحان من كلّ شيء عنده بمقدار، يبصر ما لا نبصر، كما يقدر على ما لا نقدر، خصّ المشاهدين بمعنى مشاهدته كما خصّهم