للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العليا والسفلى في ملكوت العرش والثرى لما طوي طيّ النفس وغاب العرض والثرى في جبروت الأعلى لما محي طيّ الطي وحضر الأزلي الأول إذا غاب الحدثان الثاني وظهرالباطن الآخير حين بطن الظاهر الساتر فصار العبد شهيداً لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا كل شيء ماخلا الله باطل، وأراه الآيات في الأفاق فتبين الحقّ بقول الحقّ سبحانه وتعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أنفسِهمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ الحَقُّ أَوََلمْ ىَكْفِ بِرَبِّك أنَّهُ عَلَى كُلِّ شيءٍ شَهيدٌ) فصلت: ٥٣، (ألا إنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاء رَبِّهِمْ ألا إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءِ مُحيطٌ) فصلت: ٥٤

وكذلك قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل الذي قال: اللهم أرني الدنيا كما تراها فقال: لا تقل هكذا فإن الله تعالى لايرى الدنيا كما تراها ولكن قل أرني الدنيا كما يراها الصالح من عبادك؛ وهذه شهادة أهل الله تعالى، وغابت فيه الشهادة الأولى كما غيبت تلك الأولى مشاهدة أهل الدنيا فكشف هذا المقام وإظهار هذه الشهادة لا تحلّ إلا لشهيد ذي مقام في الصديقين عتيد، وقال الحكيم: لقد عزّت معانيه فغابت عن الأبصار: إلا الشهيد وهم أولو المطلع في القرآن الذين سلموا من هول المطلع في العيان، وإفشاء سرّ الربوبية معصية وإعلان سر السر كفر ولكن يحتاج هذا الزاهد أن يشهد المزهود بمنزلة الزبد إن لم يبلغ نظره شهادة المزهد الأحد ليكون من أهل السمع والشهادة فينسى بذكر قلبه معارفه والعادة يكون عند الله شهيدًا له أجره ونوره كما قال الشاهد الأعلى والشهداء عند ربّهم لهم أجرهم ونورهم فكيف يكون شهيداً من لم يشهد بشهادته بل كيف يشهد وصف الأولية بغير نورها أم كيف يقوم بشهادته من لم يشهد قيوميته بل كيف يرى قيوميته بغير نور وحدانيته؟ فإن لم يقرب في هذا المكان فكما قال أو ألقى السمع وهو شهيد فيسمع من مكان هو إلى جنب القرب بعيد ويكون من أهل البيان والفكر كقول الحقّ المبين: (كذلك يبّين لكم الآيات لعلكم تتفكّرون في الدنيا والآخرة) البقرة ٢١٩ - ٢٢٠ أيّ تتفكّرون في فناء الدنيا وزوالها وبقاء الآخرة ودوامها فتؤثرون الباقي الدائم وترغبون فيه على الزائل الفاني وتزهدون فيه لأن ما يكون آخره فناء يشبه آخره أوّل أمره وأوّله لم يكن ومايكون آخره بفاء فكأنه لم يزل فأشبه أوّله آخره في البقاء، وكذلك قال العليم الحكيم: (والآخِرَةُ خَيْرٌ وَأبْقى) الأعلى: ١٧ فوصفها لبقائها في المآل بوصفين من صفاته.

كما قال تعالى: (وَالله خَيْرٌ وَأبْقى) طه: ٧٣، ولأنه قال تعالى: (مَا عِنْدَكمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله بَاقٍ) النحل: ٩٦ فنسب الدنيا إلينا ليذلنا بها لأنّا أهل الغناء وليزهدنا فيها، وأضاف الآخرة إليه ليعزها به لأنه أهل البقاء وليرغبنا فيها، فإذا شهد العبد بعين قلبه ويقين إيمانه ما صدّق به مما عقله الذي هو فهم سمعه وإدراك خبره ما يفنى آخره كأنه لم يكن وما يبقى آخره كأنه لم يزل كان من المتفكّرين في هذه الآية المشاهدين لها، وممن تلاها حقّ

<<  <  ج: ص:  >  >>