للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تلاوتها فآمن حقيقة الإيمان وزهد في الدنيا حقيقة الزهد ورغب في الآخرة حق الرغبة وكان من أولي الأيدي والأبصار أي من ذويّ القوى في الدين والبصائر في اليقين، فلما أبصر بقواه عبر الدنيا إلى اللّّه تعالى وكان زاده تقواه، كما قال تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الذاريات: ٤٩ أي تذكرون الفرد ففرّوا إلى الله أي من الأشكال والأضداد، وكما قال: فاعتبروا يا أولي الأبصار فعبر لما أبصر معه عندها كان ممن أخذ الكتاب بقوّة قيل: بعمل فيه وقيل: بيقين فيه ويقال: بجدّ واجتهاد، فكان من المحسنين الذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة وتلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الذين يذكرون الله قياماً وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السموات والأرض) آل عمران: ١٩١ الآية، وقال: ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها ويل لمن تلاها ومسبّح بها سبلنه وذلك أن السموات والأرض عبّر بهما عما وراءهما من درجات الجنات ودركات النيران، وهو الملكوت إلى الملك الباطن والملك الكبير فكشف هذان عمّا علا وسفل وأحاط بهما من العرش والثرى لمن تفكّر فيهما ثم كشف ذلك له ورآه من العزة وجاوز الأفكار الملكوت لما شرحت القلوب بأنوار اليقين إلى الأفق الأعلى والجبروت فنفذت أبصار المتفكرين بقواها إلى مشاهدة ذلك وبقيت أنوار يقنيهم معاينة ما أحاط بذلك وهو ما قدمنا ذكره آنفاً مما لم يظهر كشفه كنحوما نبّه الله تعالى العباد بما يشهدون إلى ما وراءه ممّا به أيقنوا وللمؤمنين مشاهدة للدنيا قريبة دون هذه من طريق العقول يشهدون أنها عقوبة كما قيل: ما فتحت الدنيا على عبد إلا مكرًا به ولا زويت عنه إلا نظرًا له.

وسمعنا في أخبار داود عليه السلام: أن الله تعالى أوحى إليه: تدري لم ابتليت آدم بأكل الشجرة لأني جعلت معصيته سبباً لعمارة الدنيا فينبغي في دليل لخطاب أن تكون الطاعة سبب خرابها وهو الزهد فيها، فصحّ بذلك الخبر المشهور: حبّ الدنيا رأس كلّ خطئة لأنه كان أساسها ولكن لايسع ذلك العامة لأنهم مرادون بالعمارة وصلح لنفرمن الخاصة لأن نقصان عددهم من الكافة لا ينقص عمارة الدنيا إذ المراد عمارتها بأهلها، ويقال عن آدم عليه السلام: لما أكل الشجرة تحرّكت معدته لخروج الثفل ولم يكن ذلك مجعولاً في شيء من أطعمة الجنة إلا في هذه الشجرة، فلذلك نهيا عن أكلها قال: فجعل يدور في الجنة فأمر الله تعالى ملكاً يخاطبه فقال له: أيّ شيء تريد؟ فقال آدم عليه السلام: أريد أن أضع ما في بطني من أذى فقيل للملك: قل له في أيّ مكان تضعه علي الفرش أم على السرر أم على الأنهار أم تحت ظلال الأشجار هل ترى ههنا موضعاً يصلح لذلك ولكن اهبط إلى الدنيا، قال: وتلطف الله تعالى له بهذا المعنى فأهبطه إلى الأرض وقد نغص اللّّه تعالى فاكهة الدنيا وغيرها بحشو العجم والثفل ليزهد فيها وأخبر أنها مقطوعة ممنوعة ليرغب في الدائم الموهوب.

وكان بعض العلماء يقول: ما سطع لي زينة من زخرف الدنيا إلا كشف لي باطنه

<<  <  ج: ص:  >  >>