للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فظهر لي عزوف عنه فهذه عناية من الله تعالى بمن وليه من أوليائه المقرّبين منه، فمن شهد الدنيا بأوّل وصفها لم يغتّر بآخره، ومن عرفها بباطن حقيقتها لم يعجب بظاهرها، ومن كوشف بعاقتبها لم يستهوه زخرفها، وكان عيسى عليه السلام يقول: ويلكم علماء السوء مثلكم مثل قناة حش ظاهرها جص وباطنها نتن، وقال مالك بن دينار رحمه الله: اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء يعني الدنيا، فمن حرص على الدنيا بالباطل فقد قتل نفسه، فإن قوى حرصه عليها واشتد عشقه لها قتل غيره، قال الله تعالى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبَاطِل وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) النساء: ٢٩ وقال في قتل غيره بصده إياه عن سبيل الله: (إن كثيرًا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله) التوبة: ٤٣ وروينا في أخبار عيسى عليه السلام: إنه مرّ في سياحته ومعه طائفة من الحواريين بذهب مصبوب في الأرض فوقف عليه ثم قال: هذا القاتول فاحذروه، ثم عبروا أصحابه فتخلف ثلاثة لأجل الذهب فأقام اثنان ودفعا إلى واحد شيئاً منه يشتري لهم من الطيّبات من أقرب الأمصار إليهم فوسوس إليهما العدوّ: ترضيان أن يكون هذا المال بينكم أثلاثاً اقتلوا هذا فيكون المال بينكم نصفين، فأجمعا على قتله إذارجع إليهما، قال: وجاء الشيطان إلى الثالث فوسوس إليه أرضيت لنفسك أن تأخذ ثلث المال اقتلهما فيكون المال كلّه لك قال: فاشترى سمّاً فجعله في الطعام فلما جاءهما به وثبا عليه فقتلاه ثم قعدا يأكلان الطعام فلما فرغا ماتا، فرجع عيسى عليه السلام من سياحته فنظر إليهم حول الذهب صرعى والذهب بحاله فعجب أصحابه وقالوا: ما شأن هؤلاء فأخبرهم بهذه القصة، وقيل لابن المبارك: من الناس؟ قال: العلماء؟ قيل: فمن الملوك؟ قال: الزاهدون، وروينا عن ابن المسيب عن أبي ذر قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من زهد في الدنيا أدخل الله تبارك وتعالى الحكمة قلبه وأنطق بها لسلانه وبصره داء الدنيا ودواِءها وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام.

وروينا في الخبر: الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول: رأيت سبعين بدريًا كانوا والله فيما أحلّ تعالى لهم أزهد منكم فيماحرّم اللّّه تعالى عليكم، وفي حديث آخر: كانوا بالبلاء والشدة تصيبهم أشد فرحاً منكم بالخصب والرخاء لو رأيتموهم قلتم مجانين، ولو رأوا خياركم قالوا: ما لهؤلاء من خلاق ولو رأوا أشراركم قالوا ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب قال: وكان أحدهم يعرض له المال الحلال فلا يأخذه ويقول: أخاف أن يفسد على قلبي، فمن كان له قلب حفظه من فساده وخاف من تغيرّه وإبعاده وعمل في صلاحه وإرشاده، ومن لم يكن له قلب فهو يتقلّب في ظلمات الهوى فربما انقلب على وجهه خسر

<<  <  ج: ص:  >  >>