للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنّ هذا مقام من مقامات الرضا خص به عند نفسه، وهذا قول لاعب ذي هوى، وهو من خدع النفوس وأمانيها ومن غرور العدوّ ومكايده، لأنّ الرضا لا يمنع من اختيار الفقر والضيقة لمعرفة الراضي بفضل الزهد وأوصافه كيف يكون، فالراضي لا يأمر بالاستيثار والاتساع لما كره من النعمة والاستكثار، لأنّ الرضا لا يوقف عما ندب العبد إليه ولا يحمل على ما كره له، وهذا اعتذار من النفس وتمويه على الخلق ليسلم منهم، ولا عذر بهذا عند مالكه ولا سلامة له فيه من خالقه، ومجمل ما ذكرناه أنّ الرضا لا يصح إلا فيما يحسن الصبر عليه والشكر عليه، لأنّ الرضا مقام فوق الصبر والشكر ومزيد الصابرين والشاكرين، فأما إن كان العبدعلى نقصان من الدين وفي مزيد من الدنيا ثم رضي بحاله، فرضاه بحاله شرّ من أعماله لمخالفة الأمر، قال الله عزّ وجلّ: (اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إلَيْه ِالْوَسيلَةَ) المائدة: ٣٥، وقال تعالى: (يَبْتغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) الإسراء: ٥٧، وقال تعالى: (سَابقُوا إلى مَغِفْرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الحديد: ٢١ وقال تعالى: (وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنَ رَبِّكُمْ) آل عمران: ١٣٣، وقال تعالى: (وَفي ذِلكَ فلْيَتَنَافَسِ الْمَتَنَافِسُونَ) المطففين: ٢٦، وقال تعالى: (يُسَارِعُونَ في الُخَيَراتِ وِهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) المؤمنون: ٦١، فندب إلى المسارعة والسوابق وذم التخلف عنها والتتثبط بالعوائق، فعلى هذا طريق المؤمنين وفيه مقامات الموقنين، وإنما كان سبب ترك سري السقطي السوق وزهده في الدنيا قوله: الحمد لله لأنها كلمة رضا ظهرت منه في موضع الاسترجاع للمصيبة وذلك أنه بلغه أنّ الحريق وقع في سوقه فأحرق دكانه، فخرج في قطع من الليل فاستقبله قوم فقالوا: يا أبا الحسن، احترقت دكاكين الناس إلا دكانك فقال: الحمد لله: ثم تفكر في ذلك فقال: قلت الحمد لله في سلامة مالي وهلك أموال إخواني المسلمين، فتصدق بجميع ما كان في دكانه من السقط والآلة كفارة لكلمته هذه، وخرج من السوق فشكر الله له فعله، فزهد في الدنيا ورفعه إلى مقام المحبة فأوصله ترك الرضا إلى الرضا، وبلغني عنه أنه كان يقول: قلت كلمة فأنا أستغفر الله منه ثلاثين سنة يعني قوله الحمد لله.

وقد جاء في الخبر: من لم يهتم بأمر المسليمن فليس من المسلمين، وفي الخبر المشهور: أوثق عرى الإيمان الحبّ في الله والبغض فيه، فجعل ذلك من أوثق العرى لأنه منوط بالإيمان، لا يستطيع الشيطان حلّه ولا سلطان له عليه كما لا سبيل له

<<  <  ج: ص:  >  >>