فتحرجت من ذلك ثم قلت: تراب وما تراب؟ فترتبه فهتف بي هاتف سيعلم من استخف بتراب ما يلقى غداً من سوء الحساب، وقال بعض العلماء: إن لأستحبّ أن يكون لي في لك شيء نية حتى في أكلي وشربي ونومي، وحدثت أنّ رجلاً صلّى مع سفيان صلاة العيد وكان قد خرج معه بغلس، فلمّا أصبح نظر وإذ إزار سفيان مقلوب فقال له: يا أبا محمد قد لبست ثوبك مقلوبًا فأصلحه قال: فمد سفيان يده ليسوّي إزاره ثم قبضها فلم يسوّه فقا له الرجل: ما منعك أن تسوّيه عليك؟ قال: إني لبسته لله عزّ وجلّ فلا أريد أن أسويه لغير ذلك ونادى رجل امرأته وكان فوق سطح يسرّح شعره فقال: هاتي المدري ليفرق به شعره فقالت امرأته: وأجيء بالمرآة فسكت هنيّة ثم قال: نعم، فقال له من سمعه لأي شيء سكتَّ عن المرآة؟ فقال له: إني قلت لها: هاتي المدري بينة، فلما قالت والمرآة؟ فلم يكن لي في لمرآة نية، فتوفقت حتى هيأ الله لي نية فقلت نعم جيئي بها.
وحدثونا عن بعض أصحاب بشر أن فتحًا الموصلي دخل عليه فقام له بشر، قال: وما رأيته قام لغيره، فقمت فأجلسني، فلما انصرف قلت له: قمت أنت إليه فلما قمت أنا أجلستني، فقال: أنا قمت إليه لأجل الله تعالى وأنت قمت لأجلي فأجلستك، وحدثونا أنّ بعض الفقراء كان يصحب أبا سعيد الخراز فكان يخف بين يديه في حوائجه، ويخدم الفقراء، ويسارع في قضاء حوائج أبي سعيد وأصحابه، قال: فتكلم أبو سعيد يوماً في إخلاص الحركة فوقر ذلك قي قلب الشاب فكأنه أخذ الإخلاص التفقد لحركته وخدمته فترك ما كان يعمله من قضاء حوائج أبي سعيد في الخفة بين يدي إخوانه حتى أضّر ذلك بأبي سعيد فقال له: يا بني قد كنت تسعى في حوائج إخوانك ثم قطعت ذلك فما السبب؟ فقال يا أستاذ إنك تكلمت في الإخلاص وأني خشيت أن تكون أفعالي مدخولة فتركتها، قال أبو سعيد: لا تغفل إنّ الإخلاص لايقطع المعاملة ولا ينبغي للعاقل أن يترك العمل لأجل الإخلاص فيفوته الإخلاص والعمل، ولم أقل لك: اترك ما أنت عليه إنما قلت لك: أخلص فيه فإنّ طلبك للإخلاص قد قطعك عن عمل البرّ وقد أضرّ ذلك بنا فارجع إلى ما كنت فيه وأخلص فيه لله تعالى، فينبغي للعبد أن يكون له نية خالصة في جميع تصرفه في حركته وسكونه وسعيه وتركه، فإن الحركة والسكون اللذين هما أصلاً الأعمال من أعماله التي يسأل عنها فيحتاج إلى النية والإخلاص فيهما، فليجعل جميع ذلك لله تعالى وفيه بعقد واحد على مراتب من المقامات عنده، إما حبًا له وإجلالاً له، وإما خوفًا منه أو رجاء له، أو لأجل ما أمره به، فينوي أداء الفرائض، أو لما ندبه فينوي المسارعة إلى الخير، وفيما أبيح له فتكون نيته في ذلك صلاحاً لقلبه، وإسكان نفسه، واستقامة حاله، وذلك كله لأجل الدين وعدة الآخرة، وشكرًا لربّه تعالى، ودخولاً فيما أحلّ له،