والجواب أن يقال: من المعروف أن الموجود شيئ إنما ينسب إلى الوجود فإن كان موجودا هو أشرف الموجودات فواجب أن ينتسب من الموجود المحسوس إلى الحيز الأشرف وهي السماوات ولشرف هذا الحيز قال الله -تعالى-: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧) } أما إذا أردتم بنفي التحيز والحيز أن الله مستغن عن خلقه بائن منهم عال على خلقه فهذا حق لكن ينبغي التعبير بألفاظ النصوص كذلك يقولون: إن الله منزه عن الحدود ما مرادكم بالحدود؟.
يقولون: بأن الله له حد أو ليس له حد بقول مجمل لا بد من استفصال الشيخ الطحاوي -رحمه الله- أراد بلفظ الحد الرد على المشبهة كداود والجواربي وأمثالهم من القائلين بأن الله جسم وأنه جثة وله أعضاء، لكن أهل الكلام جروا الطحاوي وأدخلوا في عباراته معنى باطلا فنقول مثلا ما مرادكم بالحد إذا قلتم: الله له حد أو ليس له حد، إن أردتم بالحد العلم والقول، والمعنى أن العباد يحدون الله ويعلمون لله حدا فهذا منتف بلا منازعة، فالعباد لا يعلمون لله حدا فالله -تعالى- له حد يعلمه والعباد لا يعلمون لله حدا كما قال سهل بن عبد الله وقد سئل عن ذات الله فقال: ذات الله موصوفة بالعلم غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدينا وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حد ولا إحاطة ولا حلول وتراه العيون في العقبى ظاهرا في ملكه وقدرته وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته ودلهم عليه بآياته فالقلوب تعرفه والعيون لا تدركه ينظر إليه المؤمن بالأبصار من غير إحاطة ولا إدراك نهاية.
فإن أردتم بقولكم: إن لله له حدا وأن العباد قد يعلمون لله حدا فهذا باطل، وإن أردتم بنفي الحد وقلتم: إن الله ليس لله حدا يعني: أن البشر لا يعلمون حدا ولا يحدون شيئا من صفاته فهذا حق فإن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حدا وأنهم لا يحدون شيئا من صفاته.
قال أبو داود والطياليسي: كان سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون يروون الحديث ولا يقولون: كيف، وإذا سئلوا قالوا: بالأثر فمراد الشيخ الطحاوي -رحمه الله -تعالى- هنا أن يتعالى عن الحدود أن يتعالى على أنه يحيط أحد بحده؛ لأن المعنى أن الله متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم سئل عبد الله بن المبارك -رحمه الله-: بم نعرف ربنا؟ قال بأنه على العرش بائن من خلقه قيل: بحد قال بحد يعني: أنه متميز عن خلقه منفصل لم يدخل في ذاته شيء من صفاته وفي خلقه ولا في خلقه شيء من ذاته، ومن نفى الحد بهذا المعنى معنى جعل الله فوق من المخلوقات.
فإذا قال: ليس لله حد يعني: أن الله إذا قال لله حد يعني: بأن الله منفصل عن مخلوقاته بائن منهم فهذا صحيح، وإذا قال: ليس لله حد أراد بذلك أن الله خلق من المخلوقات فهذا باطل، وإذا قال: لله حد يعني: لله حد يعلمه فهذا صحيح، وإذا قال: ليس لله حد يعني: العباد لا يعلمون لله حدا فهذا صحيح فلا بد من التفسير كذلك الغايات قوله: يتعالى عن الحدود والغايات اصطلح نفاة الحكمة والتعليل من الجبرية وغيرهم من المعتزلة وغيرهم على تسمية الحكم والغايات التي يفعل من أجلها أغراضا فيسمونها الغاية فيقولون: إن الله منزه عن الغايات التي يتكلم ويفعل لأجلها ويفعل لأجلها غرضا وقالوا لضعفاء العقول: اعلموا أن ربكم منزه عن الأعراض والأغراض والأبعاض والجهات والتركيب والتجسيم والتشبيه، واستقر ذلك في قلوب المبلغين عنهم فيبقى السامع إذا صرحوا بذلك يبقى السامع متحيرا بين نفي هذه الحقائق التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له جميع رسله وسلف الأمة وبين إثباتهم، فنقول لهم: أنتم قلتم إن الله منزه عن الغايات فما مرادكم بالغايات إن أردتم بالغايات هذا المعنى من أنه سبحانه لا يفعل ولا يتكلم لحكمة ومصلحة ورحمة فهذا باطل، وإن أرتم بنفي الغايات أن الله لا يحتاج إلى أحد ولا يفعل لحاجة ولا يفعل لمؤثر لمؤثر يؤثر فيه وموجب يوجب عليه فهذا حق لكن ينبغي الاعتصام بألفاظ النصوص؛ لأنها أسلم.