كذلك قول الطحاوي: يتعالى عن الأركان والأعضاء والأدوات والجوارح، أهل الكلام لهم مصطلحات فيسمون إثبات الصفات لله تجسيما وتشبيها وتمثيلا ويسمون العرش حيزا وجهة، ويسمون الصفات أعراض ويسمون الأفعال حوادث، ويسمون الحكم والغايات التي يفعل لأجلها أغراضا، ويسمون إثبات الوجه واليدين أبعاضا فيقولون: الله منزه عن الأعراض والأغراض والأبعاض والجهات والتركيب والتجسيم والتشبيه فيستدلون بهذه الألفاظ الأركان والأعضاء والأدوات والجوارح على نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية كاليد والوجه، ولكن لا يقال لهذه الصفات: إنها أعضاء أو جوارح أو أدوات أو أركان؛ لأنها تحتمل معاني باطلة؛ لأن الركن جزء ماهية فيقال: إذا سميتها أركانا، والركن جزء ماهية والله -تعالى- هو الأحد الصمد لا يتجزأ ولا يتفرق {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) } وقولكم: الأعضاء فيها معنى التفريق والتبعيض أي: التقطيع وجعل الشيء أعضاء وهذا المعنى منفي، ومن هذا المعنى قول الله -تعالى-: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (٩١) } والجوارح فيها معنى الاكتساب والانفتاح، والأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة فكل هذه المعاني منتفية عن الله -تعالى- فإذا أريد بذلك بها ذلك فهو بحق، ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله لكن ينبغي التعبير بالألفاظ الشرعية؛ لأن الألفاظ الشرعية صحيحة المعاني سالمة من الاحتمالات الفاسدة فلا يجوز العدول عنها نفيا ولا إثباتا لئلا يثبت بها معنى فاسد أو ينفى معنى صحيح, كذلك إن أريد بنفي الصفات نفي الجوارح والأعضاء نفي الصفات الثابتة، إن أريد بها نفي الصفات الثابتة كالوجه واليدين فهذا باطل فهذه ثابتة كما قال أبو حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر: له يد ووجه ونفس كما ذكر الله -تعالى- في القرآن بذكر اليد والوجه والنفس فهو له صفة بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته ونعمته؛ لأن فيها
إبطال الصفة.
وهذا الذي قاله الإمام أبو حنيفة ثابت بالأدلة القطعية قال الله -تعالى-: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وقال -تعالى-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ صلى الله عليه وسلمèŒ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٢٧) } وقال سبحانه: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} وقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقال: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) } وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وقال في حديث الشفاعة: "لما يأتي الناس آدم فيقولون له: (...خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء) وقال صلى الله عليه وسلم (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) من خلقه هذا كله ثابت كذلك الجهة نفيها مجمل فلا يجوز إطلاق نفيه ولا إثباته إلا مع البيان التفصيلي كما سبق بالأمس الرد على نفاة الرؤية.
كذلك أيضا قول الطحاوي -رحمه الله- ولا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات مراده -رحمه الله- أن الله لا يشبه المخلوقات، لكن أهل الكلام قالوا: مراده نفي العلو؛ لأن العلو من الجهات الست ولكن هذا ليس بصحيح بل مراده نفي جهة مخلوقة أن الله ليس في جهة مخلوقة بدليل أنه أثبت العلو، فيما بعد وقال: محيط بكل شيء وفوقه، لكن الطحاوي -رحمه الله- ينتقد لماذا عبر بهذه التعبيرات هذه التعبيرات التي تشتمل على حق وباطل كان الأولى بألا يعبر بهذه التعبيرات ويكتفي ويعتصم بنصوص الكتاب والسنة.
ثم أيضا في قول الطحاوي -رحمه الله- لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات إشكال إشكالات الإشكال الأول أن إطلاق مثل هذا اللفظ مع ما فيه من الإجمال والاحتمال كان تركه أولى وإلا تسلط عليه الخصوم وألزموه بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية ونفي جهة العلو يقولون: أنت يا طحاوي متناقض كيف أنت تقول: لا تحويه الجهات الست فتنفي العلو ثم تقول: محيط بكل شيء وفوقه وتثبت العلو ألزموه بالتناقض لكن نقول: إن الطحاوي ما يقصد مقصوده أن الله منزه عن الجهات الست المخلوقة فهو يقصد معنى صحيحا، لكن مع ذلك نقول: الأولى أن يعتصم الطحاوي وغيره بالألفاظ الشرعية حتى لا تسلط عليه الخصوم.