ومن الأدلة -أيضا- قول الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠) }
وفيه ثلاثة أدلة:
أحدها: وصفها بالرجوع.
الثاني: وصفها بالدخول.
الثالث: وصفها بالرضى.
فهذه ثلاثة عشر دليلا، ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر) ففيه دليلان:
أحدهما: وصفه بأنه يقبض. الثاني: أن البصر يراه، وهذا شأن الجسم.
ثانيا: قوله صلى الله عليه وسلم (نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة) فيه دليلان:
أحدهما: كونه طائرا.
الثاني: تعلقها بشجر الجنة وأكلها.
ثالثا: قوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث بلال: (قبض أرواحكم، ثم ردها عليكم) ففيه دليلان: وصفها بالقبض والرد.
ومن الأدلة: ما ثبت في عذاب القبر من خطاب ملك الموت لها، وأنها تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، وأنها تصعد، ويوجد منها من المؤمن كأطيب ريح، ومن الكافر كأنتن ريح، وأما الإجماع، فقد علم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد علم بالضرورة من أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء به وأخبر به الأمة، وأنه تنبت أجسادهم في القبور، فإذا نفخ في الصور، رجعت كل روح إلى جسدها، فدخلت فيه، فانشقت الأرض عنه، فخرج من قبره، ومن أدلة هذا الإجماع الحديث والآثار الدالة على عذاب القبر، ونعيمه إلى يوم البعث، ومعلوم أن الجسد يتلاشى، ويضمحل، وهذا من أدلة العقل.
الأحاديث والآثار الدالة على عذاب القبر، ونعيمه إلى يوم البعث، فمعلوم أن الجسد يتلاشى، ويضمحل، وأن العذاب والنعيم مستمران إلى يوم القيامة، إنما هو على الروح، وكذلك من أدلة العقل أن هذا البدن المشاهد محل لجميع صفات النفس، وإدراكاتها الكلية والجزئية، ومحل للقدرة على الحركات الإرادية، فوجب أن يكون الحامل لتلك الإدراكات والصفات هو البدن، وما سكن فيه.
وأما دليل الفطرة: فإن كل عاقل إذا قيل له ما الإنسان فإنه يشير إلى هذه البنية، وما قام بها لا يخطر بباله أمر مغاير لها مجرد ليس في العالم، ولا خارجه والعلم بذلك ضروري لا يكون شكا.
ومن مباحث الروح:
هل النفس، أو الروح شيء واحد، أو شيئان متغايران؟
اختلف الناس في مسمى النفس والروح هل هما مغايران، أو مسماهما واحد؟
فمن الناس من قال إنهما اثنان لمسمى واحد، وهذا قول الجمهور، ومن الناس من قال إنهما متغايران، والتحقيق أن كلا من النفس والروح تطلق على أمور، فيتحد مدلولهما تارة، ويختلف تارة، فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالبا ما تسمى نفسا إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة، فتسمية الروح أغلب عليها، وأما الروح فلا تطلق على البدن لا بانفراده، ولا مع النفس، والنفس تطلق على أمور.
أولا: تطلق على الدم، فيقال: سالت نفسه أي دمه وفي الحديث (ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت، إذا مات فيه) .
ثانيا: وتطلق على الروح يقال: خرجت نفسه، أي روحه، وتطلق على الجسد.
قال الشاعر:
نبئت أن بني تميم أدخلوا *** أبناءهم تامور نفس المنذر
والتامور الدم، وتطلق النفس على العين يقال: أصابت فلانا نفس، أي عين.
خامسا: وتطلق النفس على الذات بجملتها كقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وقوله: {تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) } .
والروح تطلق على أمور:
تطلق الروح على القرآن كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} وتطلق الروح على جبريل كقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) } وتطلق الروح على الوحي، الذي يوحيه الله إلى أنبيائه ورسله، كقوله تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وتطلق الروح على الهواء المتردد في بدن الإنسان، وتطلق الروح على أخص من هذا كله، وهو داعي الطاعة وواعظ القلب، وهو قوة المعرفة بالله والإنابة إليه، ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه، وإرادته، ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فالعلم روح، والإحسان روح، والمحبة روح، والتوكل روح، والصدق روح.
والناس متفاوتون في هذه الروح، فمن الناس من تغلب عليه هذه الأرواح، فيصير روحيا، ومنهم من يفقدها، أو أكثرها، فيصير أرضيا بهيميا، وأما ما يؤيد الله به من القوة والثبات والنصر، فهي روح أخرى كما قال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} فهذا معنى سادس، السابع: تطلق الروح على عيسى -عليه الصلاة والسلام- كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} الثامن: وكذلك القوى التي في البدن؛ فإنها -أيضا- تسمى أرواحا، فيقال: الروح الباسط، والروح السامع، والروح الشام.