قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب "التمهيد": من الآثار الدالة، التي تدل على أن الفتنة في القبر، لا تكون إلا للمؤمن أو المنافق، أو كان منسوبا إلى أهل القبله، ودين الإسلام ظاهره بالشهادة، وأما الكافر الجاحد المبطل، فليس ممن يسأل عن ربه ودينه، ونبيه وإنما يسأل عن هذا أهل الإسلام، فيثبت الله الذين آمنوا، ويرتاب المبطلون، والقرآن والسنة يدلان على خلاف هذا القول، وأن السؤال للكافر والمسلم من ذلك قول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (٢٧) } .
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم) وذكر الحديث، زاد البخاري (وأما المنافق والكافر، فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت، ولا تليت، ويضرب بمطرقة من حديد، يصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين) هكذا في البخاري، (وأما المنافق والكافر) بالواو وفي حديث أبي سعيد الخدري: (كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فإذا الإنسان دفن، وتولى عنه أصحابه جاءه ملك، وفي يده مطرقة، فأقعده، فقال له: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول له: صدقت، فيفتح له باب إلى النار، فيقول هذا منزلك لو كفرت بربك، وأما الكافر والمنافق، فيقال له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال: لا دريت، ولا اهتديت، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقول له: هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما إذا كفرت، فإن الله أبدلك به هذا، ثم يفتح له باب إلى النار) الحديث.
وفي حديث البراء بن عازب الطويل (وأما الكافر إذا كان في قُبُل من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزل عليه الملائكة من السماء، معهم مسوح) وذكر الحديث إلى أن قال: (ثم تعاد روحه في جسده في قبره) وذكر الحديث، وفي بعض روايات حديث البراء:(وأما الفاجر) واسم الفاجر في عرف القرآن والسنة يتناول الكافر قطعا، وهذه الأدلة صريحة في أن السؤال للكافر والمنافق، كما رواه مسلم، وأما قول أبي عمر بن عبد البر -رحمه الله-: وأما الكافر الجاحد المنكر فليس ممن يسأل عن ربه ودينه، فيقال له ليس كذلك، بل هو من جملة المسئولين، وأولى بالسؤال من غيره، وقد أخبر الله في كتابه أنه يسأل الكافر يوم القيامة قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) } وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) } فإذا سئلوا يوم القيامة، فكيف لا يسألون في قبورهم.
من المباحث في عذاب القبر - لأن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، ووجه تسميته برزخا..
ينبغي أن يُعلم أن عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ، ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة قال تعالى: {وَمِنْ ورائهم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) } وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة، وسمي عذاب القبر، ونعيمه، وأنه روضة، أو حفرة نار باعتبار غالب الخلق وعذاب القبر، يناله من هو مستحق له. هذا المبحث في أن عذاب القبر يناله من هو مستحق له قُبر أو لم يقبر، عذاب القبر، هو عذاب البرزخ، كل من مات، وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، قُبر أو لم يقبر، فمن أكلته السباع، أو احترق حتى صار رمادا، ونشر في الهواء، أو صلب، أو غرق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور، وكذلك المصلوب، ومن أكلته الطيور لهم من عذاب البرزخ، ونعيمه قسطه الذي تقتضيه أعماله، حتى لو علق الميت على رءوس الأشجار في مهب الرياح لأصاب جسمه من عذاب البرزخ حظه، ونصيبه، ولو دفن الرجل الصالح في تابوت من النار لأصاب جسده من نعيم البرزخ وروحه نصيبه وحظه، فيجعل الله النار على هذا بردا وسلاما والهواء على ذلك نارا وسموما، فعناصر العالم، ومواده منقادة لربها وفاطرها وخالقها، يصرفها كيفما يشاء، ولا يستعصي عليه منها شيء أراده.
وما ورد من إجلاسه واختلاف أضلاعه، ونحو ذلك، فهو حق، ويجب أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو، ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمل، ولا يقصر به عن مراده ما قصده من الهدى والبيان، وكم حصل بإهمال ذلك، والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله، وسوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، وهو أصل كل خطأ في الفروع والأصول، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد، والله المستعان.