والثاني قوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) } ولهذا فإن الثاني تأكيد للحجة وزيادة تقريرها {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، إذ كل عاقل يعلم ضروريا أن من قدر على هذا، قدر على هذا، وأنه لو كان عاجزا عن الثاني لكان عن الأول أعجز وأعجز.
ثم أكد هذه الحجة بالحجة الثانية والدليل الثاني، وهو رد على شبهة ثانية لملحد آخر يتضمن الدليل: وهو قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) } فإن هذه الآية تتضمن شبهة أوردها ملحد يقول: العظام إذا صارت رميما عادت طبيعتها باردة يابسة، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها حارة رطبة، فأجاب الله -سبحانه وتعالى- بالدليل والجواب معا {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) } فأخبر -سبحانه- بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة، وهو النار من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة، فالذي يخرج الشيء من ضده، وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها، ولا تستعصي عليه، هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه من إحياء العظام، وهي رميم.
الدليل الثالث: الاستلال بالكبير على الصغير في قوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} فهذا فيه الدلالة من الشيء الأجل الأعظم على الأيسر الأصغر، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل، فهو على ما دون ذلك بكثير أقدر وأقدر، فمن قدر على حمل قنطار، فهو على حمل أوقية أشد اقتدارا.
الدليل الرابع: أنه ليس فعله -سبحانه وتعالى- بمنزلة غيره الذي يفعل بالآلات، بل {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) } فهو -سبحانه وتعالى- يستقل بالفعل لا يحتاج إلى آلة، ومعين، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه، ويكونه نفس إرادته، وقوله للمكون: كن، فإذا هو كائن كما شاءه وأراده.