للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الدليل الخامس: إخباره -سبحانه- بأن ملكوت كل شيء بيده، فيتصرف فيه بفعله وقوله؛ ولهذا قال -سبحانه-: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣) } ختم -سبحانه- هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده، فيتصرف فيه بفعله وقوله. ومن الأدلة استنكار على من ينكر البعث ببيان كمال الحكمة في قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦) } ومثل ذلك الاحتجاج في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) } إلى أن قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) } ومثله ذكر قصة أصحاب الكهف وكيف أبقاهم ثلاثمائة سنة شمسية، وثلاثمائة وتسع سنين قمرية وقال فيها: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَن وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (٢١) } .

القائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، لهم في المعاد خبط واضطراب، وهم فيه على أقوال، هم فيه على قولين:

القول الأول: من يقول تعدم الجواهر، ثم تعاد.

والقول الثاني: من يقول تفرق الأجزاء، ثم تجتمع، فعرض عليهم الإنسان الذي يأكله حيوان، وذلك الحيوان أكله إنسان، فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا لم تعد من هذا، وأورد عليهم أن الإنسان يتحلل دائما، فما الذي يعاد أهو الذي كان قبل الموت، فإن قيل بذلك لزم أن يعاد على صورة ضعيفة، وهو خلاف ما جاءت به النصوص، وإن كان غير ذلك، فليس بعض الأبدان بأولى من بعض.

فأجاب بعضهم: أجيب عن هذا بجوابين:

الجواب الأول: أجاب بعضهم بأن الإنسان، فيه أجزاء أصلية لا تتحلل، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني، وهذا القول لعامة المسلمين، ويدخل فيه المعتزلة والأشعرية، وجميع فرق الإسلام يقولون: إن في الإنسان أجزاء أصلية لا تتحلل، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان، الذي أكله الثاني والعقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلل، وليس فيه شيء باق، فصار ما ذكروه في المعاد مما قوى شبهة المتفلسفة في إنكار المعاد.

القول الثاني: الذي عليه السلف وجمهور العقلاء أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال، فتستحيل ترابا، ثم ينشؤها الله نشأة أخرى، كما استحال في النشأة الأولى، فإنه كان نطفة، ثم صار علقة، ثم صار مضغة، ثم صار عظاما، ولحما، ثم أنشأه الله خلقا سويا، كذلك الإعادة يعيده الله بعد أن يبلى كله إلا عجب الذنب، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم، وفيه يركب) وفي حديث آخر: (إن الأرض تمطر مطرا كمني الرجال، ينبتون في القبور، كما ينبت النبات) .

فالنشأتان نوعان تحت جنس يتفقان، ويتماثلان من وجه، ويفترقان، ويتنوعان من وجه، والمعاد هو الأول بعينه، وإن كان بين لوازم الإعادة، ولوازم البدء فرق، فعجب الذنب هو الذي يبقى، وأما سائره، فيستحيل فيعاد من المادة التي استحال إليها، ومعلوم أن من رأى شخصا، وهو صغير، ثم رآه وقد صار شيخا، علم أن هذا هو ذاك مع أنه دائما فيه تحلل واستحالة، وكذلك سائر الحيوان والنبات، ومن رأى شجرة، وهي صغيرة، ثم رآها كبيرة قال هذه تلك، وليست صفة تلك النشأة الثانية مماثلة لصفة هذه النشأة، حتى يقال: إن الصفات هي المغيرة، لا سيما أهل الجنة إذا دخلوها، فانهم يدخلونها على صورة آدم، طوله ستون ذراعا، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما.

<<  <   >  >>