للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعلى كل حال فهذه المباحث مباحث عظيمة، ولولا أن أهل الكلام وأهل البدع تكلموا بالكلام الباطل لما تكلم أهل العلم بذلك، ولكن إن كان السلف والسابقون كانوا في عهدهم ذلك، لكن لما تكلم أهل البدع بالكلام الباطل وملئوا بها الأوراق والكتب، اضطر أهل العلم إلى رد الكلام الباطل.

ومن ذلك قول الطحاوي -رحمه الله-: "إنه لم يزل متصفا بصفاته قبل خلقه، وكما كان في صفاته أزليا كذلك لم يزل بصفاته أبديا".

المعنى أن الله -تعالى- متصف بصفاته بالأزل إلى ما لا نهاية في القدم فهو الأول -سبحانه وتعالى- بذاته وصفاته ليس قبله شيء، وهو الآخر -سبحانه وتعالى- ليس بعده شيء.

ما زال في صفاته قديما قبل خلقه. قلنا: إن مذهب أهل السنة والجماعة أن الرب -سبحانه وتعالى- لم يزل متصفا بصفاته الذاتية والفعلية، وأن الرب لم يزل فعالا؛ لأن الفعل من كمال ذاته المقدسة، والرب لم يزل يفعل، ويخلق الخلق من بعد خلق، إلى ما لا نهاية في الأزل.

ولا ينفي أن يكون -سبحانه وتعالى- هو الأول الذي ليس قبله شيء، فهو الأول ليس قبله شيء، ولكنه -سبحانه وتعالى- متصف بصفات الكمال، والفعل صفة الكمال {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٠٧) } .

فلم يزل يفعل، ويخلق بعد خلقه؛ لأن نوع الحوادث دائمة في الماضي، كما أنها دائمة في المستقبل، وهذا ما يسمى بتسلسل الحوادث في الماضي، ولكن كل فرد من أفراد هذه الحوادث والمخلوقات مسبوق بالعدم، كائن بعد أن لم يكن، وليس لها من نفسها وجود أو عدم، بل الله يوجدها بعد أن كانت معدومة.

والله هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهي موجودة باختياره -سبحانه وتعالى- وإرادته، وليس هناك فترة يعطل فيها الرب، هذا هو قول أهل السنة والجماعة الذي تشهد له النصوص.

أما أهل الكلام كالجهمية والمعتزلة وغيرهم فأثبتوا فترة عطلوا فيها الرب عن الفعل والكلام، وزعموا بذلك أنهم يريدون أن يثبتوا أن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، وأنه إذا قيل: إن الحوادث متسلسلة ودائمة في الماضي يذهب بذلك أن لا يكون الله هو الأول.

وهذا باطل؛ فإن أهل الكلام يثبتون فترة يعطلون فيها الرب، وأهل السنة لا يثبتون فترة، ويقولون إن الحوادث متسلسلة ودائمة، لكنها مخلوقة بعد أن لم تكن، خلقها الله بإرادته واختياره.

أما مذهب الفلاسفة كأرسطو والفارابي وابن سينا وغيرهم من الفلاسفة المتأخرين، وهم الذين يسمون الفلاسفة الإلهيين، فإنهم قالوا: إن المخلوقات والحوادث مقارنة للرب، ملازمة له في الأزل وفي الأبد.

قالوا: إنها مقارِنة للرب، فلم يثبتوا أن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، بل قالوا: إنها مقارنة له في الزمان، فهذه المخلوقات مقارنة له في الزمان، هذا أزلا وأبدا، وهي لازمة له، لا يستطيع الانفكاك عنها، ليست مخلوقة باختياره وإرادته، بل هي لازمة له أزلا وأبدا؛ لأنه علتها، وهي المعلولة، وتقدمه عليها إنما هو كتقدم العلة للمعلول، وهي لازمة له كلزوم النور للسراج والمصباح، لا يستطيع الفكاك عنها، فهي لازمة له أزلا وأبدا.

ولم يثبت أرسطو وجودا لله إلا من جهة كونه مبدأ للكثرة، وعلة غائية لحركة الفلك، بل هذه الكثرة وهذه المخلوقات مبدؤها الله، أي كأنه جزء منها -أعوذ بالله-، وهو العلة لها، محرك لها.

كفرهم العلماء، كفرهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وقال: أنتم أنكرتم أن يكون الله متقدما في الزمان، وأنكرتم أن يكون الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، حينما قلتم: إن الحوادث والمخلوقات مقارنة للرب في الزمان، أنكرتم أن يكون الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، ولم تثبتوا أن هذه الحوادث مخلوقة لله بقدرته ومشيئته، وقلتم: إنها لازمة له أزلا وأبدا، فأنكرتم تقدمه في الزمان، فكانوا بذلك كفارا.

ثم ناقش العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ناقشوا أهل البدع -أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة- قالوا: أنتم خالفتم الفلاسفة، فأثبتم فترة حتى تثبتوا أن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، ولم تقولوا كقول الفلاسفة: إن المخلوقات مقارِنة لله في الزمان.

لكنكم حينما أنكرتم العلو -علو الرب على خلقه واستواءه على العرش- وقلتم: إن الله مختلط بالمخلوقات، على قول بعض الجهمية، أنكروا العلو والاستواء، وقالوا: إنه مختلط بالمخلوقات -تعالى الله عما يقولون-.

وقال بعضهم، ونفى بعضهم عنه الوصفين المتقابلين فقالوا: لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايز له، ولا متصل به، ولا منفصل عنه.

فالجهمية الأولى قالوا بالحلول -بحلول الرب-، والجهمية المتأخرون قالوا بنفي النقيضين: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايز له، ولا متصل به ولا منفصل عنه. ماذا يكون؟ عدم، بل ممتنع، فالطائفتان -الجهمية الأولى والثانية- كلاهما لم يثبت أن الله فوق المخلوقات، وأنه مستو على العرش، بائن من خلقه.

<<  <   >  >>