وحقيقة كلام الله الخارجية هي ما يسمع منه أو من المبلغ عنه حقيقة كلام الله الخارجية ما يسمع منه كما سمعه جبرائيل، وكما سمعه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكما سمعه موسى وكما يسمعون نص كلام الله يوم القيامة، فحقيقة كلام الله الخارجية هي ما يُسمع منه أو من المبلغ عنه، فإذا سمعه السامع فكلام الله له مسموع، وإذا علمه وحفظه فكلام الله له محفوظ، وإذا قرأه فكلام الله له مقروء، وإذا كتبه فكلام الله له مكتوب، وهو حقيقة في هذه المواضع كلها لا يصح نفيها، ولو كان مجازًا صح نفيه.
ولو كان مجازًا لقيل ما قرأ القارئ كلام الله، وما كتب الكاتب كلام الله، وما سمع السامع كلام الله أو ما حفظ الحافظ كلام الله وهذا حق لأن ده فيه خطأ فهو حقيقة في هذه المواضع كلها.
فكلام الله محفوظ في الصدور، معلوم في القلوب، مقروء بالألسن، مكتوب في المصاحف، والفرق بين كون القرآن في زبر الأولين، وبين كون القرآن في لوح محفوظ، وفي كتاب مكنون، وفي رق منشور واضح فإن معنى {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) } يعني: ذكره ووصفه والإخبار عنه، وفي زبر الأولين في كتب الأولين، فالقرآن في الإنجيل والتوراة ذكره وخبره، والوصف عنه وليس المراد أن القرآن نزل في التوراة والإنجيل؛ لأن القرآن إنما أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم كما أن فيه خبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما ما ترى في رق منشور في لوح محفوظ في كتاب مكنون يعني مكتوب فيه؛ ولهذا قال الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- في كتابه، في رسالة سماها "الفقه الأكبر" قال ما معناه:
"وكلام الله في المصاحف مكتوب، وعلى الألسن مقروء، وفي القلوب محفوظ، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزل، ولفظنا في القرآن مخلوق والقرآن غير مخلوق، وما ذكر الله في القرآن عن موسى -عليه الصلاة والسلام -وعن إبليس وفرعون كذلك كلام الله إخبارًا عنهم، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق.
وكلام الله ليس ككلام المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، ويتكلم لا ككلامنا"، أو كما قال رحمه الله.
والأدلة على ثبوت كلام الرب عز وجل وأن الله يتكلم بحرف وصوت، وأن الله موصوف بالكلام كثيرة منها قول الله عز وجل ... منها: تكلم الله -سبحانه وتعالى- كلام الله لأنبيائه ورسله، وكلام الله مع أهل الجنة قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (١٦٤) } وقال: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} وقال: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) } .
ومن السنة ما ثبت في الحديث الذي رواه ابن ماجه: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا الرب -جل جلاله- قد أشرق عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، فلا يزالون في نعيم حتى يتوارى عنهم فطاب بركة ونورًا) أو كما جاء في الحديث، والحديث وإن كان فيه ضعف إلا أن له شواهد.
ومن الأدلة على أن الله يتكلم، وأن الكلام قائم به قول الله -تعالى- {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) } نفى التكليم عنهم عن أعدائه قال: لا يكلمهم أي لا يكلمهم كلام الله تكليم بل يكلمهم كلام سخط وغضب كما أخبر الله أنه يكلم أهل النار ويقول: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) } .
ونفي الكلام عن أعداء الله يدل على أن الله يكلم عباده مقررًا، ولو كان لا يكلمهم لتساووا هم وأعدائه في عدم الكلام، أي: لو كان لا يكلم أعدائه فسخطه عليهم فهو يكلم أولياءه لرضاه عنهم.
ومن الأدلة قول الله -تعالى- أو قول النبي في الحديث الصحيح: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر) فالنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بكلمات الله، فدل على أن كلام الله غير مخلوق كما تقول المعتزلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق.
فالبخاري -رحمه الله- بَوَّبَ في صحيحه: باب كلام الرب مع أهل الجنة وغيرهم وذكر فيه عدة أحاديث.
ومن الأدلة العقلية على أن الرب يتكلم والكلام قائم به: أن الكلام صفة كمال، والرب -سبحانه وتعالى- لا يخلو من الكلام فلا بد أن يتصف الرب بالكلام، فالكلام صفة كمال، فلا يخلو الرب من هذا الكمال، وعدم الكلام نقص ينزه عنه الرب كما قال الله -تعالى- عن العجل وعُبّاده: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} وقال في الآية الأخرى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٨٩) } .