ومن شبههم الشرعية التي استدلوا بها قول الله -تعالى- {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) } {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} قالوا: "جعل" بمعنى خلق والمعنى إنا خلقناه قرآنا عربيا وهذا يدل على أن القرآن مخلوق أجاب أهل الحق عن هذا الاستدلال بأنه استدلال باطل؛ لأن جعل إنما تكون بمعنى خلق إذن تعدت إلى مفعول واحد لا إلى مفعولين إذا تعدت إلى مفعول واحد جعل تصدر عن خلق كقوله -تعالى-: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (٣٠) } {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) } {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} .
"جعل" بمعنى خلق في هذه الآيات، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} وخلقنا من الماء كل شيء حي، أما إذا تعدت إلى مفعولين فلا تكون بمعنى خلق وفي هذه الآية تعدت إلى مفعولين {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} كقوله تعالى: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} فلو فسرت جعل بمعنى خلق لفسد المعنى {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} هل يستطيع معتزلي أن يقول المعنى وقد خلقتم الله كفيلا، {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (٩١) } هل يقول المعتزلي الذين خلقوا القرآن عضين {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} هل يمكن أن تفسر جعل بمعنى خلق لا يمكن، وكذلك في هذه الآية {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} لا تكون بمعنى خلق، وبهذا يبطل استدلال المعتزلة بهذه الآية.
الدليل الثالث: استدلوا بقول الله عز وجل {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) } قالوا: هذا وجه الدلالة أن الله أخبر أن القرآن قول رسول، ودل على أن القرآن مخلوق، وليس كلام الله؛ لأن الله نسبه إلى الرسول قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ} وهو مخلوق، والله خلق الرسول، وخلق كلامه فيكون القرآن مخلوقًا.
أجيب عن هذه الشبهة بأجوبة:
الجواب الأول: أن الله تعالى قال: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} والرسول إنما يبلغ عن المرسل فلم يقل: إنه قول نبي، بل قال قول رسول الرسول لا ينشئ الكلام، وإنما يبلغ كلام غيره، فدل على أن الكلام كلام الله، والرسول يبلغ كلام الله، إنه لقول رسول الرسول يبلغ عن المرسل، ولهذا لم يقل: إنه نبي.
الجواب الثاني: أن الرسول جاء في موضعين من كتاب الله عز وجل في موضع في سورة التكوير: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) } وهذا المراد به الرسول الملكي وهو جبريل، وجاء في سورة الحاقة {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) } وهذه المراد به الرسول البشري وهو محمد -عليه الصلاة والسلام -أي الرسولين أحدث نظم القرآن أي الرسولين على زعمكم أيها المعتزلة أحدث نظم القرآن إن أحدثه محمد امتنع أن يحدثه جبريل، وإن أحدثه جبريل امتنع أن يحدثه محمد.
وهذا يدل على بطلان قولكم هذا يدل على أن المراد أن الرسول مبلغ والله تعالى تكلم بالقرآن وسمعه جبرائيل وبلغه إلى محمد ثم قرأه محمد -عليه الصلاة والسلام -وبلغه الأمة.
رابعًا: أنه قال في وصفه {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) } في سورة التكوير والأمين ووصفه بالأمانة يدل على أنه يبلغ ما أرسل به كما أنزل لا يزيد ولا ينقص فجبريل يبلغه كما سمعه من الله عز وجل على ما أرسل به لا يزيد فيه ولا ينقص منه.
خامسًا: أن قولكم: إن قول المعتزلة: إن محمد أحدث نظم القرآن هذا القول يجعله داخلًا في الوعيد الذي توعد الله به الوليد بن المغيرة الذين قال الله عنه {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) } الله قال توعد من قال بأن هذا القرآن قول البشر بأن يصليه سقر فمن قال إن القرآن قول محمد ومحمد بشر -عليه الصلاة والسلام -فهو داخل في هذا الوعيد ويكون المعتزلة داخلين في هذا الوعيد.
ومن أدلة أهل السنة والجماعة على أن القرآن كلام الله أن الله أخبر بأنه منزل {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) } {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) } {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٢) } {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} .