إذن: عندما وجدوا أن هذه الدعوة سوف تنال من الأنظمة القبلية التي كانوا يسيرون عليها قبل الدعوة وجدوا في ذلك خطورة، ولذلك وقفوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالمرصاد، من أجل محاربته ومن أجل المحافظة على هذا النظام القبلي الذي كان يقرر مصلحة لهم، ولذلك أعلن رجال الملأ استنكارهم أولًا لما جاء به الرسول الكريم، ووصفوه بأنه غريب على تقاليدهم القبلية، وقالوا عنه على نحو ما ذكر القرآن الكريم:{وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ}(القصص: ٣٦) وكذلك {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ}(ص: ٧).
ودفعت العصبية القبلية ملأ قريش -يعني: رؤساء قريش- إلى الانتقال بعد ذلك من مجرد الاستنكار إلى مقاومة الرسول ماديًا ومعنويًا، حين تبين لهم أن دعوته برغم أنها بدأت دينية إلا أن تعاليمها أخذت تخلط بين أتباعها نظمًا جديدة تهدد وحدة النظام القبلي، وتقاليده، فأتباع الدين الجديد انفصلوا عن عشائرهم وقبائلهم، وتخلوا عن عصبيتهم القبلية وروابطها، وكونوا مجموعة لها روابط جديدة، ومثلًا وقيمًا جديدة وأشار القرآن الكريم إلى طبائع هذا الصراع داخل الأسرة الواحدة التي أسلم نفر منها دون الآخر فقال تعالى:{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أَخْرُجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}(الأحقاف: ١٧).
ثم رسم القرآن الكريم معالم التنظيم الخاص لهذه الظاهرة المبكرة في قوله تعالى:{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(العنكبوت: ٨) ورأى الملأ من قريش أن مجتمع مكة انقسم شقين: مجتمع تهيأ له نظمه الاتساع والنشاط ويضم المؤمنين بالإسلام، ومجتمع جامد آخذ في الانهيار وهو المجتمع القبلي الذي