ومن بين ثنايا التاريخ نسمع صوت نبي الله نوح وهو ينادي ربه:{رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا}(نوح: الآيتان: ٢٧،٢٦).
ونقارن هذا الصوت الغاضب بصوت الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن عاد من الطائف، وجلس في ظل بستان، وقد سالت الدموع من عينيه، والدماء من قدميه، نتيجة لما لقيه من أهل الطائف الذين خرج يدعوهم للإسلام، فلم يستجيبوا له، وسلطوا عليه أبناءهم وسفهاءهم يرمونه بالحجارة، وفي وسط هذا الإحساس بالقسوة والمرارة، يأتيه جبريل فيقول له: يا محمد إن ربك يقرئك السلام، ويقول لك: لو شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فيرد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله:((اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون)) نسمع صوت الرسول في هذا الموقف في هذا الموقف، وبذلك يتأكد لنا أن اختياره عليه الصلاة والسلام لرسالة عامة للناس جميعا، وللبشر كافة لم يكن اختيارًا عشوائيًّا، وأن ذلك المدد الإلهي الذي كان يأتيه من السماء، قد علمه كيف يعايش المجتمع الذي أرسل إليه، وكيف يؤدي كل دورًا من أدواره في الوقت المناسب، كانت طبيعة الرسالة الإسلامية في مراحلها الأولى، تتطلب اللين والحكمة وسعة الصدر حتى لا ينفض الناس عنها؛ ولذلك يقول تعالى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران: من الآية ١٥٩).
ومن ثم كانت هذه المرحلة، تحتم الدعوة بالإقناع والموعظة الحسنة والوقوف عند هذا الحد:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(النحل: من الآية: ١٢٥)