للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال ابن القيم رحمه الله: "السياق يرشد إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته، فانظر إلى قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)} [الدخان: ٤٩]، كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير" (١).

وقال أيضًا: "كل موضع ظهر فيه المراد بذلك التركيب والاقتران، فهو ظاهره وحقيقته، لا ظاهر له غيره، ولا حقيقة له سواه، فقوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: ١١٢] حقيقته وظاهره أنه أجاعها بعد شبعها، وأخافها بعد أمنها، وألبس بواطنها ذل الجوع والخوف" (٢).

وبناءً على ما تقدم، فإن لفظ الهرولة وإن كان معناه: الإسراع في المشي، إلا أنه لا يقتضي أن يكون هذا معناه المراد منه في كل سياق ورد فيه، وإنما السياق هو الذي يحدد معناه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وهو يتحدث عن قرب الله تعالى: "ولا يلزم من جواز القرب عليه، أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة، وينظر في النص الوارد، فإن دلَّ على هذا حمل عليه، وإن دل على هذا حمل عليه" (٣).

فالهرولة في هذا الحديث معناها: مجازاة الله تعالى وإثابته لعبده بأكمل وأفضل من عمله -على ما جاء في القول الأول- وليس المراد بها: المشي السريع، فتثبت صفةً لله تعالى، كما أن تقرب العبد بالشبر والذراع لا يراد به حقيقة الشبر والذراع، وإنما يراد به قدرهما، وإلا فما موضع


(١) بدائع الفوائد (٤/ ٢٢٢)، وقد تقدم هذا النقل وتقرير هذه القاعدة في المبحث الثالث من التمهيد، وذكرته هنا لأهميته ومناسبته.
(٢) مختصر الصواعق (٢/ ٣١٧).
(٣) مجموع الفتاوى (٦/ ١٤).

<<  <   >  >>