للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العبادات القلبية -والتي هي من أعظم العبادات وعليها تنبني أعمال الجوارح- كالخوف والرجاء والمحبة والتوكل ... ؟

وكذا العبادات القولية كالذكر والدعاء والاستغفار، هل نخرجها من هذا الحديث؟ !

وليس هذا تأويلًا للحديث وحملًا له على غير ظاهره، بل هو حقيقة معناه، وظاهر سياقه، وقد بيَّنا -فيما تقدم- أن ظاهر اللفظ: هو ما ظهر منه في السياق الذي ورد فيه، لا ما ظهر منه في سياق آخر.

ثم إن من جعل تقرب العبد الوارد في الحديث، لا يراد به التقرب بالمساحة المذكورة -وهو الحق كما تقدم- فإنه يلزمه أن يجعل تقرب الله تعالى كذلك، لأن ظاهر الخطاب أن أحد التقديرين من جنس الآخر، وكلاهما مذكور بلفظ المساحة (١)، ومن فرق بينهما فقد تناقض.

ومثل هذا الحديث ما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من كره من أميره شيئًا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتةً جاهلية)، وفي رواية: (من فارق الجماعة شبرًا) (٢).

فإنه لا يفهم من ظاهره أن المراد بالشبر شبر المساحة، وإنما المراد به كما هو ظاهر سياقه: التمثيل والتقريب، ومعناه: النهي عن معصية السلطان، ومفارقة الجماعة، ولو بأقل القليل.

قال الحافظ ابن حجر: "قوله: (شبرًا): هي كناية عن معصية السلطان ومحاربته، قال ابن أبي جمرة (٣): المراد بالمفارقة: السعي في حل عقد


(١) انظر: بيان تلبيس الجهمية، القسم السادس (١/ ١٥١).
(٢) متفق عليه: البخاري (٦/ ٢٥٨٨) ح (٦٦٤٥)، ومسلم (١٢/ ٤٨١) ح (١٨٤٩).
(٣) هو الإمام العالم الناسك أبو محمد عبد الله بن سعد بن سعيد بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي المالكي، كان عالمًا بالحديث، قوَّالًا بالحق، أمَّارًا بالمعروف نهَّاءً عن المنكر، اختصر صحيح البخاري ثم شرحه في كتاب: بهجة النفوس، توفي بالديار المصرية سنة (٦٩٥). =

<<  <   >  >>