للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإلى هذا ذهب ابن عبد البر وابن رجب، عليهما رحمة الله، وهو قول أغلب أهل التأويل (١).

قال ابن عبد البر: "معلوم أن الله عزَّ وجلَّ لا يمل، سواء ملَّ الناس أو لم يملوا، ولا يدخله ملال في شيء من الأشياء، جل وتعالى علوًا كبيرًا، وإنما جاء لفظ هذا الحديث على المعروف من لغة العرب، بأنهم كانوا إذا وضعوا لفظًا بإزاء لفظ وقبالته، جوابًا له وجزاءً، ذكروه بمثل لفظه، وإن كان مخالفًا له في معناه، ألا ترى إلى قوله عزَّ وجلَّ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: ٤٠]، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: ١٩٤].

والجزاء لا يكون سيئة، والقصاص لا يكون اعتداءً، لأنه حق واجب ...

وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله لا يمل حتى تملوا) أي: إن من مل من عمل يعمله، قطع عنه جزاؤه، فأخرج لفظ قطع الجزاء بلفظ الملال، إذ كان بحذائه وجوابًا له" (٢).

وقال ابن رجب تعليقًا على هذا الحديث: "الملل والسآمة للعمل يوجب قطعه وتركه، فإذا سئم العبد من العمل ومله، قطعه وتركه، فقطع الله عنه ثواب ذلك العمل، فإن العبد إنما يجازى بعمله، فمن ترك عمله انقطع عنه ثوابه وأجره إذا كان قطعه لغير عذر من مرض أو سفر أو هرم ...

وسُمِّي هذا المنع من الله مللًا وسآمة، مقابلة للعبد على ملله وسآمته،


(١) انظر: أعلام الحديث للخطابي (١/ ١٧٣)، ومشكل الحديث لابن فورك (٢٩٠)، والأسماء والصفات للبيهقي (٢/ ٤٣١)، والمفهم للقرطبي (٢/ ٤١٣ - ٤١٤)، وشرح النووي على مسلم (٦/ ٣١٧ - ٣١٨)، وإيضاح الدليل لابن جماعة (١٨٣)، ومنة المنعم لصفي الرحمن المباركفوري (١/ ٤٩٣).
(٢) التمهيد (١/ ١٩٥ - ١٩٦).

<<  <   >  >>