للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال أبو عبيد: "تأويله عندي -والله أعلم- أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم، من موت أو هرم أو تلف مال، أو غير ذلك، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وأتى عليهم الدهر، فيجعلونه الذي يفعل ذلك، فيذمونه ... فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تسبوا الدهر)، على تأويل: لا تسبوا الذي يفعل بكم هذه الأشياء، ويصيبكم بهذه المصائب، فإنكم إذا سببتم فاعلها فإنما يقع السب على الله تعالى، لأنه عزَّ وجلَّ هو الفاعل لها، لا الدهر، فهذا وجه الحديث إن شاء الله، لا أعرف له وجهًا غيره" (١).

وقال الخطابي: "قوله: (أنا الدهر) معناه: أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي تنسبونها إلى الدهر، فإذا سب ابن آدم الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور، عاد سبُّه إليَّ، لأني فاعلها، وإنما الدهر زمان ووقت جعلته ظرفًا لمواقع الأمور، وكان من عادة أهل الجاهلية إذا أصابهم شدة من الزمان، أو مكروه من الأمر، أضافوه إلى الدهر، وسبوه، فقالوا: بؤسًا للدهر، وتبًا للدهر، ونحو ذلك من القول ... فأعلم الله تبارك وتعالى أن الدهر محدث، يقلبه بين ليل ونهار، لا فعل له من خير أو شر، لكنه ظرف للحوادث ومحل لوقوعها، وأن الأمور كلها بيد الله تعالى، ومن قِبله يكون حدوثها، وهو محدثها ومنشئها سبحانه لا شريك له" (٢).

وقال قوام السنة الأصبهاني: "ومما جاء في الحديث مما لا يؤمن وقوع الغلط فيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فإن الله هو الدهر)، لا يجوز أن يتوهم متوهم أن الدهر من أسماء الله تعالى، وإنما معنى هذا الكلام: أن أهل الجاهلية كان من عادتهم إذا أصاب الواحد منهم مكروه أن يضيفه إلى الدهر، فيسبون الدهر على أنه الفاعل لذلك، ولا يرونه صادرًا من فعل الله، وكائنًا بقضائه، فأعلمهم أن جميع ذلك من فعل الله تعالى، وأن مصدرها من قبله، وأنكم


(١) غريب الحديث (٢/ ١٤٦ - ١٤٧).
(٢) أعلام الحديث (٣/ ١٩٠٤).

<<  <   >  >>