للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بغتة، ولم يَأمر الملك الموكل به أن يأخذه قهرًا وقسرًا، لكن أرسله إليه منذرًا بالموت، وأمره بالتعرض له على سبيل الامتحان في صورة بشر ... فلما نظر نبي الله موسى عليه السلام إلى صورة بشرية هجمت عليه من غير إذن، يريد نفسه ويقصد هلاكه، وهو لا يُثبته معرفةً، ولا يستيقن أنه ملك الموت ورسول رب العالمين فيما يُراوده منه، عَمَدَ إلى دفعه عن نفسه بيده وبطشه، فكان ذلك ذهاب عينه، وقد امتُحن غير واحد من الأنبياء صلوات الله عليهم بدخول الملائكة عليهم في صورة البشر، كدخول الملكين على داود في صورة الخصمين لما أراد الله عز وجل من تعريفه إياه بذنبه، وتنبيهه على ما لم يرضه من فعله، وكدخولهم على إبراهيم عليه السلام حين أرادوا إهلاك قوم لوط فقال: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات: ٢٥] وقال: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: ٧٠]، وكان نبينا -صلى الله عليه وسلم- أول ما بُدئ بالوحي يأتيه الملك فيلتبس عليه أمره، ولما جاءه جبريل عليه السلام في صورة رجل فسأله عن الإيمان لم يُثْبتْه، فلما انصرف عنه تبيَّن أمره فقال: (هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم) (١)، فكذلك كان أمر موسى عليه السلام فيما جرى من مُناوشته ملك الموت، وهو يراه بشرًا، فلما عاد الملك إلى ربه عز وجل مستثْبتًا أمره فيما جرى عليه، ردَّ الله عز وجل عليه عينه، وأعاده رسولًا إليه بالقول المذكور في الخبر، ليعلم نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى صحة عينه المفقوءة وعودة بصره الذاهب أنه رسول الله بعثه لقبض روحه، فاستسلم حينئذٍ لأمره وطاب نفسًا بقضائه، وكل ذلك رفق من الله عز وجل به، ولطف منه في تسهيل ما لم يكن بدٌّ من لقائه والانقياد لمورد قضائه" (٢).

فإن قيل: إذا كان أجل موسى عليه السلام قد حضر، فكيف تأخر مدة هذه المراجعة، وقد قال الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا


(١) متفق عليه من حديث أبي هريرة، وقد تقدم تخريجه ص (٥٣٥).
(٢) أعلام الحديث (١/ ٦٩٨ - ٧٠٠) بتصرف يسير.

<<  <   >  >>