للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم بيَّنَ لهم [ذلك] (١) على وجهِ التفصيلِ، فخَلَقَهُ بيدهِ تشريفًا لهُ على جميعِ المخلوقاتِ، قبَضَ قبضةً من جميعِ الأرضِ: سهلِها وحزنِها، وطيبِها وخبيثِها؛ ليكونَ النسلُ على هذهِ الطبائعِ، فكان ترابًا أولًا، ثم ألقَى عليهِ الماءَ فصارَ طينًا، ثم لما طالَتْ مدةُ بقاءِ الماءِ على الطينِ تغيَّرَ ذلكَ الطينُ فصارَ حمأً مسنونًا: طينًا أسودَ، ثم أيبسَهُ بعدما صوَّرَهُ فصارَ كالفخارِ الذي لهُ صلصلةٌ.

وفي هذهِ الأطوارِ هوَ جسدٌ بلا رُوحٍ، فلما تكاملَ خلقُ جسدهِ نفخَ فيه الرُّوحَ؛ فانقلبَ ذلكَ الجسدُ الذي كان جمادًا، حيوانًا لهُ عظامٌ ولحمٌ وأعصابٌ وعروقٌ وروحٌ هيَ حقيقةُ الإنسانِ؛ وأعدَّهُ اللهُ لكلِّ علمٍ وخيرٍ.

ثم أتمَّ عليهِ النعمةَ فعلَّمَهُ أسماءَ الأشياءِ كلِّها، والعلمُ التامُّ يستدعِي الكمالَ التامَّ، وكمالَ الأخلاقِ، فأرادَ اللهُ أنْ يُرِيَ الملائكةَ كمالَ هذا المخلوقِ، فعرضَ هذهِ المسمياتِ على الملائكةِ، وقالَ لهمْ: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٣١] في مضمونِ كلامكِم الأولِ الذي مقتضاهُ أنَّ تركَ خَلْقِهِ أولى، هذا بحسبِ ما بدا لهم في تلكَ الحالِ.

فعجزَتِ الملائكةُ عن معرفةِ أسماءِ هذهِ المسمياتِ، وقالوا: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ٣٢]، قال اللهُ: ﴿يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ [البقرة: ٣٣] شاهَدَ الملائكةُ من كمالِ هذا المخلوقِ وعلمهِ ما لم يكنْ لهم في حسابٍ، وعرفوا بذلكَ على وجهِ التفصيلِ والمشاهدةِ كمالَ حكمةِ اللهِ، وعظَّمُوا آدمَ غايةَ التعظيمِ؛ فأرادَ اللهُ أنْ يُظهرَ هذا التعظيمَ والاحترامَ لآدمَ من الملائكةِ ظاهرًا وباطنًا، فقالَ للملائكةِ: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [البقرة: ٣٤] احترامًا لهُ وتوقيرًا وتبجيلًا، وعبادةً منكم لربِّكم، وطاعةً ومحبةً وذلًّا؛ فبادرُوا كلُّهم أجمعونَ فسجدُوا.


(١) زيادة من (خ).

<<  <  ج: ص:  >  >>