كانتْ ثمودُ -وهيَ عادٌ الثانية- يسكنونَ في «الحِجْرِ» وما حولَها، وكانوا أهلَ مواشٍ كثيرةٍ، وأهلَ حروثٍ وزروعٍ، وتواصلَتْ عليهم النعمُ، فكانوا يتخذونَ من السهولِ قصورًا مزخرفةً، ومن الجبالِ بيوتًا منحوتةً متقنةً، فبطرُوا النعمَ وكفروها، وعبدُوا غيرَ اللهِ، فأرسلَ اللهُ إليهم أخاهم صالحًا من قبيلتِهم، يعرفونَ نسبَهُ وحسبَهُ، وفضلَهُ وكمالَهُ، وصدقَهُ وأمانتَهُ، فدعاهم إلى اللهِ وإلى إخلاصِ الدينِ لهُ، وتركِ ما كانوا يعبدونَ من دونهِ، وذكَّرَهم بنعمِ اللهِ، وبأيامهِ بالأممِ المجاورةِ لهم، فلم يتبعْهُ إلا القليلُ.
وحينَ ذكَّرَهم وأقامَ الأدلةَ والبراهينَ على وجوبِ توحيدِ اللهِ اشمأزُّوا ونفرُوا واستكبرُوا، وقالوا: ﴿يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا﴾ [هود: ٦٢] أي: قدْ كنَّا قدْ تخايَلْنا فيكَ أنْ تفضلَنا جميعًا؛ لكمالِكَ وكمالِ أخلاقِكَ، وآدابِكَ الطيبةِ. وهذا اعترافٌ منهم لهُ بهذهِ الأمورِ قبلَ أنْ يقولَ ما قالَ، فما نزَّلَهُ عن هذهِ المرتبةِ عندَهم إلا أنهُ دعاهم إلى عبادةِ الخالقِ من عبادةِ العبيدِ، وإلى السعادةِ الأبديةِ! وما ذنبُهُ إلا أنهُ خالفَ آباءَهم الضالينَ، وهم كانوا أضلَّ منهم!
ثم أقامَ لهم بينةً عظيمةً، وآيةً وبرهانًا ونعمةً على جميعِ القبيلةِ بأسرِها، وقالَ: ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ﴾ [هود: ٦٤] التي لا يشبهُها شيءٌ من النوقِ في ذاتِها وشرفِها ومنافعِها، ﴿لَكُمْ آيَةً﴾ على صدقِي وعلى سعةِ رحمةِ ربِّكم، ﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ﴾ على اللهِ رزقُها، ولكمَ نفعُها، تَرِدُ الماءَ يومًا؛ فتَرِدُ القبيلةُ بأسرِها على ضرعِها، كلٌّ يصدرُ عن ضرعِها قدْ ملأَ آنيتَهُ، ثم تَرِدُونَ أنتم في اليومِ الثاني، فمكثَتْ على هذا ما شاءَ اللهُ.