للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إليها وهو يعالج نفس الأبيات في دلائل الإعجاز (١)، مما يدل على أن عبد القاهر - وهو يؤلف "الأسرار" لم يكن قد اهتدى إلى ترجمة لنظريته في النظم، وبالتالي فإن تأليف "أسرار البلاغة" كان قبل تأليف "دلائل الإعجاز".

وليس معنى أن يكون الكلام في غاية الوضوح وعلى أبلغ ما يكون من الإبانة، أنه يغنيك عن الفكرة إذا كان المعنى لطيفاً ذلك لأن المعاني اللطيفة لا بد فيها من بناء ثان على أول، ورد تال على سابق.

وإن أردت دليلاً على هذا، وشاهداً ينطبق بصحته فالنظر إلى قول البحتري (٢) في المدح:

دان على أيدي العفاة وشاسع ... عن كل ند في الندى وضريب

كالبدر وافرط في العلو وضووه ... للعصبة السارين جد قريب

أفلست تحتاج - في الوقوف على الغرض من قوله "كالبدر أفرط في العلو" - إلى أن تعرف البيت الأول، فتتصور حقيقة المراد منه - ووجه المجاز في كونه دانياً شاسعاً، وترقم ذلك في قلبك، ثم تعود إلى ما يعرض البيت الثاني عليك من حال البدر ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى، وترد البصر من هذه إلى تلك، وتنظر إليه وكيف شرط في العلو الإفراط، ليشاكل قوله: (شاسع) لأن الشسوع هو الشديد من البعد ثم قابله بما لا يشاكله من مراعة التناهي في القرب فقال: (جد قريب)؟


(١) أنظر دلائل الإعجاز صـ ٥٦، والوساطة صـ ٨٩، صـ ٧٩.
(٢) أسرار البلاغة صـ ٩٠.