للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأما البشرى لهم في الآخرة فهي البشرى لهم بالجنة والمغفرة والأمن من الفزع الأكبر، قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)} [الحديد:١٢].

وقال: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)} [الأنبياء:١٠٣].

ثم قال تعالى بعد أن بشرهم بذلك ووعدهم به: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:٦٤]، أي: أن هذا الوعد بالبشرى لا يبدله الله ولا يخلفه ولا يغيره، بل هو مقرر مثبت، وكائن لا محالة.

ومثل هذه الآية في المعنى: الآيةُ الأخرى التي في سورة الأنعام: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)} [الأنعام:٣٤]. والمعنى: ولا مبدل لكلمات الله التي كتبها الله بالنصر في الدنيا لعباده المرسلين، كما قال في آية أخرى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣)} [الصافات:١٧١ - ١٧٣].

فالآية لا تدل على ما قصد إليه من عدم وجود النسخ في القرآن الكريم.

ثانيًا: إن هؤلاء المشككين لكون غرضهم فاسدًا يتبعون المتشابه من الآيات، ولا يفسرون القرآن بعضه ببعض، ولا يرجعون إلى أئمة التفسير لمعرفة المقصود من الآية، وإنما يفسرونها على حسب أهوائهم ومشاربهم. وهذا المشكك الذي معنا من هذا الصنف، ولو أنه يعرف آيات القرآن الكريم وأحكامه تمامًا لما نفى الناسخ والمنسوخ فيه، ولما اتهم أهل الحديث زورًا وبهتانًا باختراع هذا العلم من عند أنفسهم. وإلا فأين هو -إن كان منصفًا- من قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)} [البقرة:١٠٦]؟

فهذه الآية صريحة في نسخ الله تعالى لما شاء من آيات كتابه وأحكامه، وهي رد على هذا المفتري الذي يقول: "إن أهل الحديث هم الذين اخترعوا الناسخ والمنسوخ"!

فكيف يصنع بهذه الآية الواضحة في لفظها ومعناها، والتي تدل على وقوع النسخ في الكتاب العزيز؟

ثالثًا: وكيف يصنع أيضًا بقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (١٥)} [النساء:١٥]؟

فإن هذه الآية نزلت قبل تشريع الحدود، وهي تبين بمنطوقها حكم الزانية سواءً كانت محصنةً أو بكرًا بأنه الحبس في البيت حتى الموت، ثم نسخ هذا الحكم بالإجماع عند العلماء بآية النور التي شرعت حد الجلد للزاني والزانية غير المحصنين، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)} [النور:٢] (١).


(١) قال ابن حزم: «فلما صح بالنص والإجماع أن الحبس والأذى منسوخان عن الزواني والزناة باليقين الذي لا شك فيه بالحدود وجب أن ننظر في الناسخ ما هو؟ فوجدنا الناس قد أجمعوا على أن الحر الزاني والحرة الزانية إذا كانا غير محصنين فإن حدهما مائة جلدة». المحلى بالآثار لابن حزم (١٢/ ١٦٩).

<<  <   >  >>